العوامل الأساسية في تقدم الأمم وازدهارها

العوامل الأساسية في تقدم الأمم وازدهارها
العوامل الأساسية في تقدم الأمم وازدهارها
ياسمينة صاف


إن تقدّم الأمم ليس مسألة عفوية تأتي صدفة، فهي ليست بالسهلة ولا بالمستحيلة، بل إن تقدّم أي أمة من الأمم مرهون بمدى جدية وجودة مشروعها الحضاري، وإدارتها للموارد والوقت واستثمارها في الإنسان، ونجاحها يكون نتيجة لعوامل متداخلة تعمل في نسق متناغم لبناء حضارة مستدامة. وهنا يكمن جوهر السؤال: من أين يبدأ التغيير؟ هل يبدأ من إصلاح البنية السياسية؟ أم من المجتمع؟ أم من الفكرة الحضارية الجامعة؟
يرى مالك بن نبي أن الحضارة ليست «كومة» ولا تراكُمًا ماديًا، بل هي بناء فكري وروحي، يتكامل فيه الإنسان والتراب والزمن، ويقوم على فكرة محورية هي الفكرة الدينية التي تحرّك هذه العناصر للبناء الحضاري [1].
 ويضيف جاسم السلطان أن النهضة لا تقوم على الحماسة والانفعال، بل هي عملية تراكمية تحتاج إلى مشروع حضاري واضح المعالم، وليست مجرد ردة أفعال عاطفية [2].
لا شك أن للدولة دورًا أساسيًا في التقدّم الشامل للمجتمع، من خلال الحكم الرشيد، ومحاربة الفساد، وترسيخ سياسات عادلة [3]. ووفق تقارير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة، فإن غياب الحكم الرشيد من أبرز معوّقات التنمية في العالم العربي [4].
بالمقابل، لا يمكن للدولة وحدها إحداث التغيير الحضاري المنشود دون مجتمع واعٍ ومشارك في النهضة الحضارية من خلال تقاسم الأدوار في المجتمع. فكل شخص ينبغي أن يشعر أنه هو محور النهضة، وإصلاحه مقدمة لإصلاح المجتمع. ويرى عبد الكريم بكار أن أي نهضة حقيقية تبدأ من تنمية الوعي، وتثبيت القيم الأخلاقية في سلوك الأفراد [5].
ومن أبرز أدوات النهضة وتقدم الأمم عبر التاريخ، التعليم. فالتعليم ذو الجودة العالية يُنتج أفرادًا مؤهلين للحياة الكريمة، وللتنمية الشاملة، يتحلّون بالقيم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية التي تجعل منهم عناصر مؤثرة في المجتمع، قادرين على التفكير النقدي والإبداع والابتكار وحل المشكلات. وقد أشار تقرير التنمية العربية (2003) إلى أن تراجع التعليم هو سبب رئيسي لتخلف المنطقة العربية [6]. ويُعيد مالك بن نبي التأكيد على أن بناء عقل المسلم المعاصر أولى من استيراد التقنية، فالعلم لا يؤدي دوره إلا إذا وُجه ثقافيًا وأخلاقيًا [7].
كما أن القيم والهوية الثقافية تشكل الفضاء الأخلاقي للمجتمع. فالحضارات تنهض حين يتم التركيز على منظومة قيم أخلاقية عليا، ومفاهيم ثقافية واضحة تشكل نسق معرفي منظم، حيث يتم أجرأتها على شكل سلوك اجتماعي، وتقوم النهضة حينما يعتني المربي والمعلم بتربية متوازنة بين حاجات الشباب وحاجات المجتمع الذي يعيشون فيه. كما يشير فهمي جدعان إلى أهمية تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة لتحقيق نهضة متجذرة ومستجيبة للتحديات [8][9].
وقد أصبحت التكنولوجيا في عصرنا تشكل جانبًا مهمًا في حياة الناس، والتحول الرقمي من أبرز معايير التقدم. فالدول التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي تُحقق نموًا نوعيًا، كما هو الحال في كوريا واليابان [10]. ومن ثم كان لزامًا على المنظومة التربوية والتعليمية إدراج المهارات الرقمية والذكاء الاصطناعي في التعليم الثانوي والجامعي بشكل خاص مع مهارات القرن الحادي والعشرين. 
ولا يمكن إغفال دور الشباب والمرأة في البناء الحضاري. فالشباب هم الطاقة المحركة لأي مشروع تنموي، وتمكين المرأة في سياق ثقافي منصف يعزز العدالة ويزيد الفاعلية المجتمعية [11]، ويحسن الأداء بحيث يكون تكامل في الأدوار الاجتماعية، وفي النشاط العلمي والاجتماعي والإصلاحي بشكل عام بين الرجل والمرأة كل لما يسر له، في إطار الاحترام والتعاون المتبادل.
أما العدالة الاجتماعية، فهي حجر الزاوية في الاستقرار. وقد حذّر تقرير التنمية البشرية من أن الفقر والجهل والمرض تمثل منظومة التخلف الثلاثية في العالم العربي [12].
ولا بد لأي أمة تطمح إلى النهضة من وعيٍ بتاريخها. فقراءة التاريخ بعين نقدية واعية متبصرة تُسهم في اكتشاف العثرات الماضية، وتجنب الأخطاء التاريخية، كما يؤكد هشام جعفر في كتابه "سؤال النهضة"[13].
وأخيرًا، فإن الحفاظ على البيئة الطبيعية، والانفتاح على التعاون الدولي يمثلان جزءًا من مسؤولية حضارية تجاه الأجيال القادمة، ولا يمكن عزل التقدم عن البُعد الأخلاقي في التعامل مع البيئة أو عن الانفتاح الواعي على تجارب الأمم الأخرى [14]. ولا شك أننا نعيش في عصر التحالفات السياسية، فمن الضروري لأي أمة أن يكون لها حلفاء تتعاون معهم في بناء نهضتها في إطار الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
ومن هنا ندرك أن نهضة الأمة العربية أو الإسلامية انما هو مشروع تشاركي ينبغي أن يكون مقصودًا ومخططًا له، وهو مشروع ينبغي أن يمتلك فكرة جوهرية محركة، وإرادة كلية من جميع أفراد المجتمع، بحيث يكون الوحي هو محور الحياة بكل جوانبها، والروح هي الدافع المحرك للهمم، ويكون الانسان المسلم رجالًا ونساء هم محور التغيير الفكري، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. ويتحقق مشروع النهضة من خلال الاستثمار في الانسان، وتكامل وانسجام الدولة مع أفراد المجتمع، وذلك بتحسين جودة التعليم والبحث العلمي، وترسيخ القيم والمبادئ الفطرية والأخلاقية مثل الحرية، والعدالة، والإبداع والابتكار. وتطوير طرق ووسائل التعليم بحيث تكون أهم أهدافه تطوير مهارات الشباب حتى تتوافق مع مهارات القرن الحادي والعشرين كمهارة التفكير النقدي، ونقد الذات، وإدارة الوقت، ومهارة حل المشكلات ومهارة الاتصال والتواصل مع الآخرين في مجتمعه ومجتمعات أخرى مختلفة، وبتطوير المهارات الرقمية والذكاء الاصطناعي كأدوات مساعدة على تطور المجتمع وعندما تتكامل هذه العوامل كلها وتصب في مشروع النهضة بشكل متكامل ومتوازن، بحيث تخرج الحضارة من طور الجمود وتنهض الأمة من سباتها العميق إلى فضاء الإبداع والتقدم.
الحواشي:
[1] مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 2006.
[2] جاسم السلطان، المدخل إلى التأسيس الفكري، دار اقرأ، قطر، 2011.
[3] محمد الغزالي، التخلف هوية لا مبرر له، دار الشروق.
[4] UNDP، تقرير التنمية الإنسانية العربية، 2009.
[5] عبد الكريم بكار، النهضة.. رؤية واقعية، دار السلام.
[6] UNDP، تقرير 2003: بناء مجتمع المعرفة.
[7] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر.
[8] عبد الكريم بكار، نحو وعي حضاري، الإسلام اليوم.
[9] فهمي جدعان، تحرير الإسلام: رسائل في السياسة والدين والتنوير، الشبكة العربية للأبحاث.
[10] Sharma, Ruchir. The Rise and Fall of Nations، W. Norton & Co., 2016.
[11] تقرير البنك الدولي، النوع الاجتماعي والتنمية في الشرق الأوسط، 2013.
[12] UNDP، تقرير التنمية الإنسانية العربية، 2009.
[13] هشام جعفر (تحرير)، سؤال النهضة، مركز نماء، 2013.
[14] برنامج الأمم المتحدة للبيئة، تقرير البيئة والتنمية المستدامة في الوطن العربي، 2018.