خلق الله الإنسان الأول، نبينا آدم عليه السلام، ونفخ فيه من روحه، وهنا تتجلى حكمة الله في خلقه، إذ أودع فيه سرّ الحياة والعقل والإدراك، فكان أول كائنٍ يعي ذاته ويُدرك وجوده في هذا الكون الواسع. ومن لحظة النفخة الإلهية بدأ الإنسان يفكر ويتأمل ويتساءل عن الغاية من وجوده، فوعيه لم يكن عبثيًا، بل لحكمةٍ عظيمة أرادها الخالق، وهي عمارة الأرض وتحقيق التوازن بين الروح والمادة.
قال تعالى: "وكل شيء خلقناه بقدر" [القمر:49]، وهذه الآية تؤكد أن وجود الإنسان مقصود ومقدّر، وأن الوعي جزء من هذا القدر الإلهي الذي ميّز الإنسان عن سائر المخلوقات. فمنذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض بدأت مسيرة الوعي الإنساني تتشكل وتتطور، فأنشأ الإنسان القرى والمدن، وعلّم أبناءه الزراعة والصناعة والكتابة، وكانت هذه البدايات أساس الحضارات الأولى في التاريخ.
إنّ الوعي هو الذي جعل الإنسان يرفع بصره إلى السماء فيتأمل الكواكب والنجوم، وينظر إلى الأرض ليتعلم قوانينها، فظهر في مصر القديمة علماء الفلك والطب والهندسة، وفي بلاد الرافدين سُنّت القوانين الأولى كـ«شريعة حمورابي»، وفي اليونان نشأت الفلسفة والتفكير العقلي على يد سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثم انتقل الوعي الإنساني إلى مرحلة أرقى مع بزوغ الإسلام الذي جاء ليحرر الإنسان من الجهل والظلم، ويعيد توجيه وعيه نحو الخير والعلم والعدالة.
فبالعقل والوعي بُنيت الحضارات، وبالجهل والانحراف سقطت. إنّ ما يميز الإنسان ليس جسده ولا قوته، بل وعيه الذي يجعله قادراً على التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والجمال والقبح. ومن هنا فإن الوعي ليس مجرد معرفة، بل هو مسؤولية ورسالة، لأن الإنسان المخلوق من روح الله مُكلّف بإعمار الأرض ونشر الخير فيها.
إنّ الوعي في جوهره هو النور الذي يسكن الإنسان منذ أن نُفخت فيه الروح، نورٌ يقوده نحو الحق إن أحسن استخدامه، ويُغرقه في الظلام إن غفل عنه. فكلما ازداد الإنسان علمًا وتأملًا في نفسه وفي الكون، ازداد قربًا من خالقه وفهمًا لمعنى وجوده. وحين يدرك أن رسالته في الحياة هي الإصلاح والبناء لا الفساد والهدم، يكون قد وصل إلى أسمى درجات الوعي. فالحضارات لا تُقاس بارتفاع مبانيها، بل بسموّ عقول أبنائها ونقاء قلوبهم. ومن هنا، تبقى رحلة الوعي الإنساني مستمرة ما دامت الروح في الجسد، تبحث عن الحقيقة، وتُعيد اكتشاف معنى الإنسان في كل عصرٍ وزمان.