في عالمٍ تتسارع فيه التحوّلات الاجتماعية والفكرية، تُطرح قضايا المرأة من زوايا شتى، لكن كثيرًا ما تُختزل هذه القضايا في شعارات سطحية تُغفِل عمق الإشكال وجذوره الحضارية والثقافية.. ويبدو أنّ السؤال لم يعد: ماذا تريد المرأة؟ بل: ما الذي يُراد للمرأة أن تكونه؟
على سبيل المثال في المجتمعات الريفية والمُنغلقة، ينشأ وعي الأنثى وسط جدران من التقاليد الصارمة والتصوّرات المُسبقة، فيتم كبح رغبتها في التعلّم والمعرفة بنوع من التوجّس. وكأنّ الطموح بذرة غريبة يُخشى عليها أن تثمر، يُنظر إلى الكتاب بوصفه شيئاً بلا قيمة، وإلى التفكير النقدي باعتباره تمرّدًا، وإلى الحلم الكبير وكأنه نداء لا يُسمح بالاستجابة له.
وغالبًا ما يُرسم للفتاة مسار واحد، الزواج المبكّر، قبل أن تتفتّح مداركها أو تُمنح فرصة للتساؤل، وكأنّ المجتمع يختزل وجودها في تكرار نموذج جاهز لا يترك لها حقّ التجربة أو الاكتشاف. ومن المؤلم أن تُقابل الفتاة التي تفكّر بطريقة غير مألوفة، أو تتطلّع إلى التعلّم والمعرفة، بنظرات الاستغراب وربما التهكّم، إذ يُقال لها: انظري إلى فلانة وفلانة، لم تدرس، وها هنّ في بيوتهن سعيدات! وكأنّ السعادة تكمن فقط في الجلوس في البيت، لا في البناء والعطاء.
لكن رغم كلّ هذا، هناك من النساء من قرّرن أن يُضئن شمعة في عتمة الواقع، أن يخرجن من ضيق الأعراف إلى سعة المعنى، مُجسّدات قول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "من لديه سبب يعيش من أجله، يمكنه تحمّل أيّ كيف". هؤلاء لم يُردن سوى الحقّ في الحلم، في التعلّم، في صناعة الذات من دون أن يُطلب منهن خلع جذورهن أو المساس بعفتهن.
وشخصيًا، عندما انتقلت إلى تركيا مررت بتجربة قاسية في مواجهة نوع آخر من التحديات. فالدخول في مجتمع جديد وفضاء مفتوح يُنتج صراعًا خفيًا بين الحفاظ على الأصالة والانخراط في الحداثة. فمحاولات اقتلاعي من جذوري وإغوائي بفكر لا يُشبهني ولا يمتُّ إلى بيئتي وعفتي بصلة كانت تتكرّر معي في مختلف الميادين. لكني لم أستطع أن أتخلى عن التربية التي شكّلت ذاتي وكياني ولم أستطع أن أكون غير ذاتي التي أعرفها وأهدف فقط إلى تطويرها في رحلتي التعليمية في هذه البلاد التي أضافت لشخصيتي الشيء الكبير.
ومع هذا الصراع، ظلّ سؤال جوهري يطرق الوعي: لماذا المرأة الغربية قائدة، مبدعة، مؤثرة.. بينما المرأة المسلمة التي نزل الوحي في بيتها، وتحدّث عنها القرآن في سور مثل "النساء" و"الطلاق" و"المجادلة".. تُؤطّر في صور الضعف وتُقصى عن مجالات الحياة كافة؟
أليس من التناقض أن يضرب الله المثل بملكة سبأ في الحكمة والسياسة، ويُظهر السيدة خديجة في أبهى صور الريادة الاقتصادية والدعم النفسي والعاطفي والمالي، بينما يحاصر الواقع المعاصر المرأة المسلمة بين نارين؛ العادات الموروثة من جهة، والانفلات المقنّع من جهة أخرى.
قال فولتير: "الحرية تبدأ حين ينتهي الجهل"، لكن لننتبه لما يُرفع اليوم من شعارات تحرّرية في بعض الأوساط الرقمية مما لا يمت للحرية بصلة، بل هو فقط اختزال وتضييق لقيمة المرأة في جسدها من دون عقلها، إذ باتت الأمومة تُهان والتربية تُهمّش، والطلاق يُحتفل به، والرقص في "تيك توك" يُرفع له القبّعة! وفي خضم هذا الانحدار، من يفكّر في أثره على الأطفال؟
وفي زحمة هذا الصخب المدوي، يُقصى الدور التربوي الجوهري للمرأة، وكأنّها لم تعد من تُخرّج الأجيال وتزرع فيهم القيم الأولى. فالمرأة حين تربي فهي لا تصنع فردًا فقط، بل تُهيّئ وطنًا كاملًا من القيم والبصيرة. وكما قال جان جاك روسو: "المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بيسارها"، فهل يمكن أن تقوم حضارة تُقصى فيها المرأة عن دورها التربوي والقيادي معًا؟
ولعلّ الإشكال الأكبر ليس في المفارقة بين الأصالة والحداثة فحسب، وإنما في التصوّر الخاطئ أن أحدهما يقصي الآخر. فليست الأصالة قيدًا ولا الحداثة انحلالًا، بل حين يجتمع القلب الواعي مع العقل المتزن يمكن للمرأة أن تسير بثبات في درب النجاح من دون أن تخلع روحها، ورحم الله الغزالي حين قال: "ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم نور يُقذف في القلب". حينها فقط، يمكن للحداثة أن تُثمر من دون أن تقتلع الجذور والأصول.
ووسط هذا الغبار، تبقى السيدة خديجة رضي الله عنها نموذجًا ساميًا لا يبلى؛ سيدة أعمال ناجحة، زوجة داعمة، أم رؤوفة، امرأة متوازنة حملت همّ الرسالة من دون أن تتخلى عن أنوثتها أو رسالتها معًا. فهل كانت أقل حرية من نساء اليوم؟ أم كانت أكثر حكمة وعمقًا واتزانًا وتكاملًا؟
إننا لا نحتاج اليوم إلى نزع القيم لنكون ناجحين، بل إلى إعادة تعريف النجاح والتأثير في أرضية الواقع. فالنجاح ليس شهرة أو مالًا أو مهنة فحسب، ولكنه توازن بين الداخل والخارج، بين الرسالة والحياة. والمرأة الناجحة ليست نسخة مكرّرة من غيرها بقدر ما أنها كيان مستقل يعرف جيّدًا من أين جاء وإلى أين يمضي.
على سبيل المثال في المجتمعات الريفية والمُنغلقة، ينشأ وعي الأنثى وسط جدران من التقاليد الصارمة والتصوّرات المُسبقة، فيتم كبح رغبتها في التعلّم والمعرفة بنوع من التوجّس. وكأنّ الطموح بذرة غريبة يُخشى عليها أن تثمر، يُنظر إلى الكتاب بوصفه شيئاً بلا قيمة، وإلى التفكير النقدي باعتباره تمرّدًا، وإلى الحلم الكبير وكأنه نداء لا يُسمح بالاستجابة له.
وغالبًا ما يُرسم للفتاة مسار واحد، الزواج المبكّر، قبل أن تتفتّح مداركها أو تُمنح فرصة للتساؤل، وكأنّ المجتمع يختزل وجودها في تكرار نموذج جاهز لا يترك لها حقّ التجربة أو الاكتشاف. ومن المؤلم أن تُقابل الفتاة التي تفكّر بطريقة غير مألوفة، أو تتطلّع إلى التعلّم والمعرفة، بنظرات الاستغراب وربما التهكّم، إذ يُقال لها: انظري إلى فلانة وفلانة، لم تدرس، وها هنّ في بيوتهن سعيدات! وكأنّ السعادة تكمن فقط في الجلوس في البيت، لا في البناء والعطاء.
لكن رغم كلّ هذا، هناك من النساء من قرّرن أن يُضئن شمعة في عتمة الواقع، أن يخرجن من ضيق الأعراف إلى سعة المعنى، مُجسّدات قول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "من لديه سبب يعيش من أجله، يمكنه تحمّل أيّ كيف". هؤلاء لم يُردن سوى الحقّ في الحلم، في التعلّم، في صناعة الذات من دون أن يُطلب منهن خلع جذورهن أو المساس بعفتهن.
وشخصيًا، عندما انتقلت إلى تركيا مررت بتجربة قاسية في مواجهة نوع آخر من التحديات. فالدخول في مجتمع جديد وفضاء مفتوح يُنتج صراعًا خفيًا بين الحفاظ على الأصالة والانخراط في الحداثة. فمحاولات اقتلاعي من جذوري وإغوائي بفكر لا يُشبهني ولا يمتُّ إلى بيئتي وعفتي بصلة كانت تتكرّر معي في مختلف الميادين. لكني لم أستطع أن أتخلى عن التربية التي شكّلت ذاتي وكياني ولم أستطع أن أكون غير ذاتي التي أعرفها وأهدف فقط إلى تطويرها في رحلتي التعليمية في هذه البلاد التي أضافت لشخصيتي الشيء الكبير.
ومع هذا الصراع، ظلّ سؤال جوهري يطرق الوعي: لماذا المرأة الغربية قائدة، مبدعة، مؤثرة.. بينما المرأة المسلمة التي نزل الوحي في بيتها، وتحدّث عنها القرآن في سور مثل "النساء" و"الطلاق" و"المجادلة".. تُؤطّر في صور الضعف وتُقصى عن مجالات الحياة كافة؟
أليس من التناقض أن يضرب الله المثل بملكة سبأ في الحكمة والسياسة، ويُظهر السيدة خديجة في أبهى صور الريادة الاقتصادية والدعم النفسي والعاطفي والمالي، بينما يحاصر الواقع المعاصر المرأة المسلمة بين نارين؛ العادات الموروثة من جهة، والانفلات المقنّع من جهة أخرى.
قال فولتير: "الحرية تبدأ حين ينتهي الجهل"، لكن لننتبه لما يُرفع اليوم من شعارات تحرّرية في بعض الأوساط الرقمية مما لا يمت للحرية بصلة، بل هو فقط اختزال وتضييق لقيمة المرأة في جسدها من دون عقلها، إذ باتت الأمومة تُهان والتربية تُهمّش، والطلاق يُحتفل به، والرقص في "تيك توك" يُرفع له القبّعة! وفي خضم هذا الانحدار، من يفكّر في أثره على الأطفال؟
وفي زحمة هذا الصخب المدوي، يُقصى الدور التربوي الجوهري للمرأة، وكأنّها لم تعد من تُخرّج الأجيال وتزرع فيهم القيم الأولى. فالمرأة حين تربي فهي لا تصنع فردًا فقط، بل تُهيّئ وطنًا كاملًا من القيم والبصيرة. وكما قال جان جاك روسو: "المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بيسارها"، فهل يمكن أن تقوم حضارة تُقصى فيها المرأة عن دورها التربوي والقيادي معًا؟
ولعلّ الإشكال الأكبر ليس في المفارقة بين الأصالة والحداثة فحسب، وإنما في التصوّر الخاطئ أن أحدهما يقصي الآخر. فليست الأصالة قيدًا ولا الحداثة انحلالًا، بل حين يجتمع القلب الواعي مع العقل المتزن يمكن للمرأة أن تسير بثبات في درب النجاح من دون أن تخلع روحها، ورحم الله الغزالي حين قال: "ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم نور يُقذف في القلب". حينها فقط، يمكن للحداثة أن تُثمر من دون أن تقتلع الجذور والأصول.
ووسط هذا الغبار، تبقى السيدة خديجة رضي الله عنها نموذجًا ساميًا لا يبلى؛ سيدة أعمال ناجحة، زوجة داعمة، أم رؤوفة، امرأة متوازنة حملت همّ الرسالة من دون أن تتخلى عن أنوثتها أو رسالتها معًا. فهل كانت أقل حرية من نساء اليوم؟ أم كانت أكثر حكمة وعمقًا واتزانًا وتكاملًا؟
إننا لا نحتاج اليوم إلى نزع القيم لنكون ناجحين، بل إلى إعادة تعريف النجاح والتأثير في أرضية الواقع. فالنجاح ليس شهرة أو مالًا أو مهنة فحسب، ولكنه توازن بين الداخل والخارج، بين الرسالة والحياة. والمرأة الناجحة ليست نسخة مكرّرة من غيرها بقدر ما أنها كيان مستقل يعرف جيّدًا من أين جاء وإلى أين يمضي.