الفن المريض… مرآة مجتمع عليل

الفن المريض… مرآة مجتمع عليل
     كانت أم كلثوم أيقونة الطرب العربي، تلاحقها في زمانها الاتهامات بالمجون والجرأة، وغالباً ما كان يُنظر إلى أغانيها وكلماتها على أنها خروج عن وقار المجتمع. أما اليوم، فنبكي عليها ونترحّم على زمنها، ونستعيد أغانيها وكأنها كانت قمة الطهر الفني وذروة الاحترام للذائقة واللغة. وقبلها بقرون، كانت الموشحات الأندلسية تُتَّهم أيضاً بالمجون، بينما تعد اليوم من أرفع ما أنجب التراث الشعري والموسيقي العربي.
     هذه المفارقة تكشف أن الفن في جوهره مرآة المجتمع؛ فإذا ارتقى المجتمع ارتقى فنه، وإذا انحط انحط معه. والمشهد الراهن للفن في بلداننا يفضح أمراضاً اجتماعية ونفسية لا يمكن إخفاؤها.
فكم من فنان يصب أزماته النفسية وعقد النقص في أغنياته! وكم من مطرب يترجم اضطراباته الشخصية، من شك مرضي إلى نرجسية متضخمة، أو أوجاع الطلاق والانفصال، فيحولها إلى أناشيد بؤس جماعي!
     ولم تتوقف الكارثة عند حدود ترجمة هذه الأزمات فحسب، بل تجاوزتها لتصبح صانعة لها في الواقع. فالأغاني التي تبني الحب على أوهام زائفة، أو تمجد الانفصال، أو تشرعن الانكسار العاطفي، لم تُنتج سوى انفصالات حقيقية ووجع اجتماعي يطاول البيئات كافة، صغيرها وكبيرها. ويكفي أن ينظر أحدنا إلى قاعات المحاكم ليكتشف حجم المأساة: شباب يطلقون في عام زواجهم الأول، بل أحياناً بعد أشهر فقط، لأن مفاهيم التفاهة والسطحية تغلغلت في وعيهم، فأفسدت الترابط الروحي والعقلي بين الأزواج. فإلى أين نمضي؟
     وهنا لا بد من الاعتراف بحقيقة واضحة: لا يمكننا أن نحارب الفن أو نمحو وجوده من حياة الناس. فالفنان يستطيع أن يدخل إلى البيوت أكثر من أي خطيب أو مفكر، وأبناؤنا وشبابنا يستيقظون على الأغاني وينامون عليها. ومهما انتقدنا أو شتمنا، فإن الشباب الذين يشاركوننا النقد في العلن هم أنفسهم الذين يستمعون في الخفاء. لا داعي إذن لخداع أنفسنا؛ فالفن لن يختفي من حياتنا، لكن يمكن لعقلاء المجتمعات أن يساهموا في تقويمه وضبط رسالته، وتوجيهه نحو الجمال والمعنى ما أمكن، ليصبح أداة لبناء الوعي وصناعة واقع أجمل بدل أن يكون معول هدم.
     وهنا نصل إلى نقطة لا تقل أهمية: إن بعض المفكرين والشيوخ الذين حاربوا الفن ودعوا لمقاطعته لم يقدّموا بدائل عملية لإصلاحه أو لإعادة توجيهه، بل حولوا الفنان إلى كائن منبوذ في المجتمع. والنتيجة كانت الانحدار الذي نعيشه اليوم، حيث أصبح أبناؤهم أنفسهم ضحايا للفن الرديء الذي كانوا يحاربونه. فقد كان الأجدر بالمثقفين وأهل العلم أن يتحاوروا مع الفنانين في مراكز الثقافة ودور الشباب، ليساهموا في تأهيلهم وتوسيع آفاقهم، بدل أن يتركوها أماكن للتسلية فقط. كان يمكن اعتبارها بيوتاً لإعادة بناء الفنان وإثراء فكره، ليصبح منتجاً إيجابياً للمجتمع.
     كما قال ابن خلدون: "إذا فسد الذوق هُدمت أسس العمران، وانحطت معانيه، ففسدت تبعاً لذلك الأخلاق والعادات".
     لقد عشتُ شخصياً هذه التحولات حين كنت في سن المراهقة أستمع إلى الفن الريفي الأمازيغي الأصيل. كان الفنانون ينقلون إلينا نقاء المشاعر وهموم الأرض، ويحكون قصص التاريخ النضالي لمنطقة الريف، وجمال طبيعتها، وكفاح أهلها. كان الغناء نافذة على القيم والبطولة والانتماء. أما اليوم، فقد انحدر الفن الريفي نفسه إلى حضيض الاستعراض الجسدي والكلمات المبتذلة، وفقد أخلاقياته وروحه.
     الأزمة إذن ليست في الألحان أو الإيقاعات وحدها، بل في اللغة التي تراجعت، والرسالة التي تلاشت، والاستسهال الذي جعل إنتاج أغنية أو ألبوم مسألة أسابيع، بينما كانت أم كلثوم تُنفق سنتين أو ثلاثاً على أغنية واحدة، تُحاك كلمة كلمة، ولحناً لحناً، لتخرج عملاً خالداً يعيش عقوداً. وزد على ذلك التجارية المفرطة التي حوّلت الفن في عصرنا الرقمي إلى سلعة رخيصة تُباع في "سوق التفاهة" عبر التيكتوك واليوتيوب. فالمسألة إذن تجارية بامتياز.
     لقد علمنا التاريخ أن الفن حين يكون ابناً صادقاً لقيم مجتمعه يصبح قوة نهضته بالفعل. ففي الأندلس، أسهمت الموسيقى والموشحات في تلطيف الذائقة وصناعة التمدّن، حتى جذبت الملوك والعلماء معاً، وأسهمت في جذب أوروبا كلها نحو حضارتنا. وفي النهضة المصرية، ساهم المسرح والسينما والطرب في تكوين وعي قومي جامع وبناء ذائقة جماعية راقية.
     أما اليوم، فالمعركة الحقيقية ليست في محاربة الفن، بل في إعادته إلى جوهر رسالته، حتى لا يبقى مجرد صدى لفراغنا وصداعاً لرؤوسنا. لقد أصبح الفن شاهداً على انهيار الذوق العام وغياب الثقافة وانحدار الأخلاق وانتشار التخلف بشكل رهيب. والحل ليس في الحنين إلى الماضي فقط، بل في إعادة تأهيل الفنان نفسه وتوسيع أفقه حتى يدرك أن الفن رسالة وليس تجارة. كما أن إحياء اللغة والذائقة بات ضرورياً لتستعيد الأغنية قوتها، وترتقي بالوجدان الإنساني، ليصبح الفن نغمة تفتح أبواب الوعي وتعيد إلى الأرواح معنى الجمال.
     كما يقول المفكر الاستراتيجي جاسم السلطان: "إذا أردت أن تعرف مستقبل أمة فانظر إلى فنها؛ فإن كان راقياً ارتقى شعبها، وإن كان هابطاً تهيّأ لانحدارها".
     إننا اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نستسلم لسوق التفاهة، أو أن نعيد للفن شرف رسالته، ليصبح مرة أخرى جسراً نحو عالم أجمل، بدل أن يبقى شاهداً على سقوطنا.