نموذج العالم الإسلامي لا يمكن أن يكون خارجه
بدران بن لحسن
مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر
مقدمة
أثناء قراءتي لكتاب وجهة العالم الإسلامي للأستاذ مالك بن نبي، الذي نشره في 1956، وجدت فيها نصًا مهمًا يذكر فيه أن العالم الإسلامي لا يمكن أن يتخذ نموذجًا للتحضر من خارج ذاته الحضارية. يقول النص: "إن العالم الاسلامي لا يستطيع في غمرة هذه الفوضى أن يجد هداه خارج حدوده. بل لا يمكنه أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن عليه أن يبحث عن طرق جديدة ليكشف عن ينابيع إلهامه الخاصة... فليس المراد أن يقطع علاقاته بحضارة تمثل ولا شك إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم هذه العلاقات معها".
هذه الكلمات الموجزة تُجسّد البنية العميقة لفكر بن نبي، الذي كان يرى أن البحث عن حلول لمشكلات العالم الإسلامي لا يمكن أن يؤخذ من الحضارة الغربية التي تغمرها الفوضى وتقترب قيامتها، ولكن عليه البحث عن حلول جديدة وطرق جديدة من ينابيع إلهامه الخاصة، وأن ينظم صلته بالعالم الغربي باعتباره تجربة إنسانية كبرى.
والسؤال هو: إلى أي مدى ما زال هذا النص صالحًا لفهم واقع العالم الإسلامي اليوم؟ وهل ما زالت رؤيته في ضرورة استعادة الإلهام الذاتي، وتنظيم العلاقة مع الحضارة الغربية، تحتفظ براهنيتها في ظل التحولات الحضارية المتسارعة التي يشهدها العالم؟
إن هذا السؤال المركزي المتولد من النص، تتفرع عنه تساؤلات أخرى فرعية، منها: هل استطاع العالم الإسلامي اليوم أن يستلهم مشروعه النهضوي من داخله أم لا يزال تابعًا للنماذج الوافدة؟ وكيف يمكن فهم دعوة بن نبي إلى "تنظيم العلاقة" مع الغرب في عصر العولمة الرقمية والهيمنة الثقافية الكونية؟ وما مظاهر الفوضى التي حذر منها بن نبي، وهل لها أشكال جديدة اليوم؟ وهل فعلاً تقترب "قيامة" الغرب كما لمح بن نبي، أم أنه لا يزال هو المتحكم في مسار العالم؟
للتعاطي مع هذا السؤال وأسئلته الفرعية نعتمد منهجا تحليليًا ـ تركيبيًا من جهتين؛ أولهما تحليل نص بن نبيمن خلال تفكيك العبارات المفصلية الواردة في النص، وربطها بسياقها الفكري العام، وبالأطر التي تشكل فيها وعي مالك بن نبي الحضاري، خاصة في سياق ما بعد الاستعمار، وصعود الحركات الوطنية الإسلامية. وثانيهما المقارنة بين الواقع التاريخي والواقع الراهنعبر وضع مقولات النص في ميزان الحاضر، وتحليل مدى صلاحيتها التفسيرية لفهم تحديات اليوم في العالم الإسلامي، في ظل تطورات كبرى مثل العولمة، والرقمنة، والانهيارات القيمية في الغرب، وتصاعد الأزمات الداخلية في العالم الإسلامي.
البنية الفكرية والدلالات الحضارية لنص بن نبي
حين كتب مالك بن نبي بأن العالم الإسلامي "لا يستطيع في غمرة هذه الفوضى أن يجد هداه خارج حدوده"، كان يعبّر عن قناعة راسخة لديه بأن أزمة المسلم المعاصر ليست في غياب الوسائل أو تأخر التقنية، بل في غياب الوعي الحضاري الذي يسمح له بإدراك ذاته، وفهم مكانته في التاريخ، وبناء فعله المستقل عن تبعية التقليد أو خمول الانعزال. هذه العبارة لم تكن مجرد توصية أخلاقية، بل كانت تعكس منظورًا حضاريًا متكاملًا، ينطلق من أن أي نهضة حقيقية لا يمكن أن تأتي من خارج البنية الثقافية والروحية التي تصوغ تصور الإنسان عن نفسه وعن العالم من حوله. الهُدى الذي يبحث عنه بن نبي ليس مجرد حلول عملية، بل هو تصور شامل للنهضة، يكون نابعًا من الذات، متجذرًا في المرجعية، متسقًا مع الهوية، ومفتوحًا في الوقت نفسه على التفاعل مع الآخر.
هذه النظرة نابعة من إيمانه بأن النهضة لا يمكن أن تُستورد كما تُستورد الآلات أو النظم الإدارية، لأن النهضة فعل مركب يبدأ من الإنسان، والإنسان في فكر بن نبي ليس كائنًا اقتصاديًا أو سياسيًا فقط، بل هو كائن يحمل رؤية كونية، وقيمًا أخلاقية، وأفقًا روحانيًا. ولهذا، فإن استعارة النماذج الخارجية - مهما بلغت من الكفاءة التقنية - لا تُفضي إلى نهضة ما لم تُستوعب داخل نسق حضاري يملك جذوره الخاصة، ويتوفر على "قابلية للنهضة" من داخله. من هنا، فإن العبارة الواردة في النص تتجاوز ظاهرها النقدي إلى تأسيس رؤية معرفية: كل مشروع لا ينطلق من ينابيع الإلهام الذاتية مصيره الارتهان والتبعية، وربما الفشل.
يتعمّق هذا الطرح حين نفهم أن السياق الذي كتب فيه بن نبي هذا النص كان زمن تصاعد موجة الاستقلالات السياسية في العالم الإسلامي، حيث ظنّت بعض النخب أن التحرر من الاستعمار يكفي لبناء نهضة جديدة، فهرعت إلى تبني نماذج الغرب، إما في صورتها الليبرالية أو الاشتراكية، ظنًا أن المشكلة كانت في غياب المؤسسات أو التكنولوجيا، لا في ضعف الوعي الحضاري ومحدودية الرؤية الثقافية. بن نبي كان يدرك، من خلال تتبعه لتجارب النهضة في اليابان وروسيا ومصر والجزائر، أن الأمم لا تنهض بمجرّد استيراد "النظام"، بل بنقل الإنسان إلى حالة فكرية جديدة يكون فيها قادرًا على توليد المعنى من داخل تاريخه وهويته.
ولهذا، فإن النص يُحمّل خطابًا مزدوجًا: خطابًا للنخبة التي اغترت بالغرب، وظنّت أن حلولها جاهزة وقابلة للتطبيق في كل مكان وزمان، وخطابًا لعامة الأمة، ينبههم إلى ضرورة الوثوق بالذات الحضارية لا بمعنى النرجسية أو الانغلاق، بل بمعنى أن هناك قدرة على الإبداع موجودة في العمق الإسلامي، لكنها تحتاج إلى من يوقظها، لا إلى من يستبدلها. فالفوضى التي يتحدث عنها بن نبي هي فوضى المعنى قبل أن تكون فوضى الواقع، وهي فوضى العجز عن ترتيب الأولويات، عن تحديد المرجعية، عن بلورة النموذج. إنها لحظة التيه التي تدفع الأمم إلى أن تبحث عن خلاص خارجي، في حين أن خلاصها مرهون باكتشاف قيمها الفاعلة، وتحويلها إلى رؤى عملية.
ومن اللافت أن بن نبي لا ينكر إمكانية الاستفادة من تجارب الآخرين، بل يشدد على أن العالم الإسلامي "قد يقتبس طرقًا جديدة"، لكنه يضع شرطًا ضمنيًا: لا بد أن يكون الاقتباس واعيًا، انتقائيًا، تفاعليًا، لا ذوبانًا ولا رفضًا مطلقًا. فليس العيب في الاستفادة من الغرب، ولكن في جعل الغرب مصدرًا وحيدًا للهداية. وبين هذين الحدين - رفض الذوبان ورفض الانغلاق - يتموضع مشروع بن نبي. إنه يطلب من المسلم أن يكون حاضرًا في العالم، لكن بشخصيته الحضارية، لا بأقنعة الآخرين. إن دعوته إلى أن يكون الهدى من "داخل حدوده" تعني إعادة تشكيل المشروع الإسلامي على أسس معرفية وروحية متماسكة، قادرة على تفعيل الطاقات، وتوجيه الإبداع، واستعادة التاريخ بوصفه مستقبلًا، لا مجرد ماضٍ.
هكذا يظهر أن العنصر الأول من النص يشكّل مفتاحًا لقراءة فكر مالك بن نبي بأكمله، كما يشكّل مدخلًا نقديًا لتقييم المشاريع النهضوية المعاصرة التي ظلت في كثير منها سجينة النموذج الخارجي، عاجزة عن التحرر من سحره أو نقد بنيته. وبذلك يتأكد أن دعوة بن نبي إلى هدى داخلي ليست دعوة عاطفية أو مثالية، بل تأسيس نظري لإمكانية النهضة الحقيقية من خلال الإنسان المسلم حين يتحرر من التقليد، ويستعيد فاعليته، ويستأنف التفكير لا من موقع التابع، بل من موقع المبدع.
راهنية النص في ظل التحولات العالمية الراهنة
لقد أشار مالك بن نبي، في لحظة مبكرة، إلى اقتراب أفول النموذج الغربي، حين وصف حضارته بأنها على مشارف "قيامتها"، وهو تعبير رمزي بالغ المعنى، لا يقصد به الفناء الفيزيائي أو الانهيار العسكري، بل يشير إلى بلوغ الحضارة الغربية ذروتها ثم شروعها في الانحدار الداخلي، من خلال تفكك قيمي عميق وفقدان المعنى الغائي الذي كان يمنح الإنسان اتساقًا داخليًا وانسجامًا حضاريًا. واليوم، بعد مرور سبعة عقود على هذا النص، تتجلى هذه المؤشرات بصورة أكثر وضوحًا، بل إن مراكز الفكر الغربية نفسها صارت تقر بذلك، وتتحدث عن "ما بعد الحقيقة"، و"ما بعد الليبرالية"، و"ما بعد الإنسان"، بما يحيل إلى حالة ارتباك شديد في البنية المرجعية لهذه الحضارة، التي لم تعد قادرة على إنتاج مشروع إنساني جامع، بل أصبحت سجينة منجزها المادي الذي فقد وظيفته الأخلاقية.
فالمجتمعات الغربية، رغم تقدمها التكنولوجي والاقتصادي، تشهد تفككًا بنيويًا في قيمها التأسيسية: الأسرة في تراجع، الهويات في تفتت، والمؤسسات التعليمية والدينية التقليدية فقدت سلطتها الأخلاقية. وحتى الديمقراطية، بوصفها قيمة محورية في الغرب، لم تعد محل إجماع، بل تحوّلت إلى آلية إجرائية فارغة من المعنى الروحي والالتزام الجمعي. وهذا ما يجعل تحليل بن نبي صائبًا في جوهره؛ إذ إنه لم ينظر إلى الحضارة الغربية من زاوية القوة فقط، بل نظر إلى بُعدها الروحي، واعتبر أن الأزمة الحقيقية تكمن في فصل العقل عن القيمة، والعلم عن الغاية، والحرية عن المسؤولية. وهذا الفصام الداخلي هو الذي عبّر عنه بإيحاء "قيامتها"، أي وصولها إلى نقطة العجز عن تجديد نفسها من الداخل.
وإذا تأملنا في صورة الغرب اليوم، فإننا نجده في موقع القوة المادية لا شك، لكنه في موقع الضعف المعنوي والروحي. الحضارة الغربية اليوم تُنتج أدوات الذكاء الاصطناعي، وتُهيمن على الاقتصاد العالمي، وتستطيع هندسة الأذواق والثقافات، لكنها عاجزة عن الإجابة عن أسئلة الإنسان الكبرى: لماذا نعيش؟ ما الغاية من التقدم؟ ما شكل العدل الذي يستحقه البشر؟ بل إنها تعيد إنتاج معاناة الإنسان بطرق جديدة، حيث يصبح عبداً للآلة، ومستهلكاً بلا إرادة، وفرداً مقطوع الجذور في عالم افتراضي لا يؤمن إلا بالمصلحة والسرعة. وهنا يبرز فراغ المعنى، وهو الخطر الذي حذّر منه بن نبي، حين رأى أن التقدم المادي إذا لم يُقَدْ بقيم روحية، يتحول إلى عبء على الإنسان نفسه.
وفي المقابل، فإن العالم الإسلامي، الذي حثه بن نبي على أن لا يطلب هداه من حضارة "تقترب قيامتها"، لا يزال في معظم دوله ونخبه مفتونًا بهذه الحضارة، غير قادر على تجاوز استلابه لها، أو على الأقل غير راغب في مساءلتها. لا تزال جامعاتنا تترجم دون نقد، وتقتبس دون تمحيص، وتستورد نظريات التنمية والإدارة والديمقراطية والتعليم وكأنها وحي لا يقبل التشكيك. وكأن ما يحدث في الغرب ليس سوى تقدم مطّرد بلا أزمة، في حين أن الحقيقة أن الغرب نفسه يعيش صدمة روحية، لكنه يملك القدرة على حجب أزمته وتجميل صورته. من هنا، فإن القراءة الراهنة للنص تكشف أن تحذير بن نبي لم يكن دعوة إلى الانغلاق، بل دعوة إلى البصيرة؛ إلى إدراك أن العالم الخارجي - بما فيه الغرب - ليس مرشدًا أخلاقيًا للأمم، وأن على الأمة الإسلامية أن تبصر في مرآة ذاتها، وتبحث عن نهضتها عبر إحياء مواردها الفكرية والروحية، لا عبر الاتكال على حضارة فقدت بوصلة المعنى.
إن دعوة بن نبي لا تزال تصطدم اليوم بعقبة الاستلاب، لأن التحدي لم يعد فقط في تقليد النموذج الغربي، بل في الذوبان الكامل في بنيته المعرفية والرمزية. فالعالم الإسلامي اليوم لا يترجم فقط العلوم أو المناهج، بل يتبنى خلفياتها الأنطولوجية والأخلاقية ضمنًا: يتعامل مع الإنسان ككائن اقتصادي، ويقيس النجاح بالمردودية، ويتصور التقدم في صورة نمو رقمي، ويروّج لقيم فردانية وتنافسية لا تفرز إلا العزلة والتشتت. هذه القيم ليست حيادية، بل تحمل رؤى وجودية مناقضة لروح الإسلام التي ترى الإنسان خليفة، لا مستهلكًا؛ وترى المجتمع أمة، لا مجرد أفراد؛ وترى الحياة تكليفًا، لا ترفًا.
من هنا، فإن مقولة "اقتراب قيامة الغرب" التي استنكرها البعض في زمن بن نبي، قد أصبحت اليوم أكثر صدقًا مما كانت عليه. لكنها ليست دعوة للشماتة أو النرجسية، بل تذكير بأن هذه الحضارة لا تصلح أن تكون قدوة مطلقة. بل إن حاجتنا اليوم إلى رؤية بن نبي أشد من أي وقت مضى، لأنها تضعنا أمام لحظة وعي وجودي، تلزمنا بأن نعيد تعريف ذاتنا الحضارية، لا في ضوء ما يُملى علينا من الخارج، بل انطلاقًا مما نملكه من عناصر قوة روحية وثقافية لا تزال مطمورة، لكنها قادرة على إنتاج نموذج إنساني بديل، أكثر توازنًا بين الروح والمادة، بين الغاية والوسيلة، بين العقل والإيمان.
فاعلية النص في تشخيص الواقع
إن ختام النص الذي صاغه مالك بن نبي يحمل نبرة توازن دقيقة بين رفض التبعية والانغلاق عن العالم، وهو توازن يكشف عن النضج الفكري في مشروعه الحضاري. فبعد أن نبّه إلى أن العالم الإسلامي لا يمكن أن يستلهم هداه من حضارة فقدت بوصلة المعنى، عاد ليؤكد أنه، رغم ذلك، لا يمكن أن يعيش في عزلة عن العالم، لأن مسار التاريخ الحديث يتجه نحو الترابط والتكامل. إن هذه العبارة الموجزة، "فليس المراد أن يقطع علاقاته بحضارة تمثل ولا شك إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم هذه العلاقات معها"، تعبّر عن موقف فكري رصين، يرفض الثنائية القاتلة بين "نحن" و"هم"، وبين "الذات" و"الآخر"، ويطرح بديلًا أكثر اتزانًا، قوامه الاستقلال الواعي لا الاستعلاء الفارغ، والانفتاح المنظم لا التبعية الذائبة.
في هذا التصور، لا تصبح العلاقة بالحضارة الغربية علاقة تقديس أو عداء، بل علاقة نقد وتفاعل. فهي، بحسب تعبيره، "إحدى التجارب الإنسانية الكبرى"، أي أنها ليست شيطانًا مطلقًا، بل تجربة إنسانية فيها إنجازات اجتماعية ومعرفية وفكرية وتقنية لا يمكن إنكارها، لكنها في الوقت نفسه ليست مرجعية مطلقة، ولا نموذجًا يستعصي على النقد. إن ما يقترحه بن نبي، في جوهره، هو ألا يُقاس التقدم بالكم وحده، ولا بالنمو الاقتصادي أو التكنولوجي فقط، بل بالقدرة على تحقيق التوازن بين المادة والروح، بين الفكرة والوظيفة، بين الإنتاج والتوجيه القيمي. ومن هنا تنبع أهمية تنظيم العلاقة، لأن الخطر لا يكمن في التواصل مع الآخر، بل في طريقة هذا التواصل: هل هو تفاعل بين أنداد؟ أم استهلاك من طرف لمنظومة الطرف الآخر دون فرز أو وعي؟
لقد أدرك بن نبي أن العالم يتجه إلى نوع من الوحدة أو المصير المشترك أو العالمية، بفعل تطور وسائل الاتصال، والعلاقات الاقتصادية، والتشابك السياسي، وهو ما نشهده اليوم بوضوح في أشكال العولمة المختلفة، سواء في الاقتصاد أو الثقافة أو الإعلام أو حتى في الأزمات المشتركة مثل البيئة والصحة. غير أن هذا التوحد لا يعني الذوبان، بل يدعو الأمم إلى تثبيت خصوصياتها في إطار هذا التشابك الكوني. ولذلك، فإن بن نبي لم يكن من أنصار الانغلاق الهوياتي أو الانسحاب من التاريخ، بل كان يدعو إلى دخول العصر بروح فاعلة، تستلهم من داخلها وتتحاور مع الخارج، لا بأن تتقمصه، بل بأن تحاوره وتؤثر فيه.
إن التنظيم الذي يدعو إليه هنا لا يقتصر على ترتيب العلاقة الدبلوماسية أو التجارية، بل هو قبل ذلك تنظيم معرفي وقيمي، يقتضي تحديد المرجعية، وتطوير أدوات الاستفادة، وتفعيل آليات النقد الداخلي للذات قبل نقد الآخر. فحين تكون الذات منهارة من الداخل، تكون العلاقة بالآخر علاقة هشاشة وتبعية، أما حين تكون الذات واعية بخصوصيتها، قادرة على تجديد مفاهيمها، فإنها تدخل في علاقة تأثير متبادل. وهنا يتبدى مشروع بن نبي في أفقه العالمي، حيث لا يطلب من المسلم أن ينعزل في جزيرته الثقافية، بل أن يدخل العالم، حاملًا مشروعه، ومشاركًا فيه بقيمه، لا بتقليده الأعمى.
ويكتسب هذا الطرح راهنيته في سياقنا المعاصر، حيث دخلت الأمة الإسلامية في علاقات واسعة مع العالم، لكنها في الغالب علاقات غير متكافئة، يغلب عليها الطابع الاستهلاكي، والتبعية الاقتصادية، والاستلاب الثقافي، والخضوع السياسي. فالعلاقات ليست منضبطة بمعايير الرؤية الحضارية الإسلامية، بل هي مفروضة في كثير من الأحيان بميزان القوة والمصالح الدولية. ولهذا فإن دعوة بن نبي إلى "تنظيم العلاقة" تعني اليوم بناء مشروع ثقافي وسياسي واقتصادي مستقل، يحدد شروط التفاعل، ويرسم حدود الانفتاح، ويمنح الإنسان المسلم القدرة على المشاركة في العالم دون أن يفقد ذاته. وهذا يقتضي بناء مؤسسات مستقلة في الإعلام، والتعليم، والفكر، والعلاقات الدولية، تُعبّر عن رؤية الأمة، لا عن نسخة ممسوخة من النماذج المهيمنة.
هكذا نرى أن بن نبي، في كلماته الموجزة، قد وضع أُسس ما يمكن تسميته بـ"منهج للتفاعل الحضاري"، حيث لا ينفي الذات لصالح الآخر، ولا يُقصي الآخر باسم الذات، بل يقيم جدلية عقلانية بين الإلهام الذاتي والانفتاح الواعي. وهذا ما يجعل مشروعه الفكري واحدًا من أعمق المشروعات التي حاولت أن تؤسس للنهضة الإسلامية على قاعدة الفاعلية لا الرفض، وعلى قاعدة التميّز لا التمركز، وعلى أساس أن الأمم حين تملك رؤيتها وأدواتها الفكرية، وتدرك دورها في التاريخ، تستطيع أن تسهم في بناء الحضارة الإنسانية من موقع الشريك لا من موقع التابع.
نحو تفعيل مقولة "ينابيع الإلهام الذاتية" اليوم
إن تفعيل مقولة "ينابيع الإلهام الذاتية" التي نادى بها مالك بن نبي صار ضرورة وجودية للأمة الإسلامية في ظل واقع متعدد الأزمات، ماديًا ومعنويًا. فاستمرار حالة التبعية الفكرية والثقافية للغرب، واستيراد نماذجه دون فرز أو نقد، أدى إلى إعاقة بناء مشروع نهضوي مستقل، قادر على الاستجابة لتحديات العصر، من دون فقدان الهوية. ولذلك، فإن العودة إلى فكرة الإلهام الذاتي لا تعني التراجع إلى الماضي، ولا الانغلاق على التراث، بل تعني استنهاض عناصر القوة الكامنة في المرجعية الإسلامية، وتحويلها إلى طاقة فكرية وتاريخية قادرة على إنتاج نموذج بديل للمعرفة، والتنمية، والإنسان.
وتبدأ هذه العودة بإعادة بناء المنظومة التعليمية والثقافية في العالم الإسلامي على أسس جديدة، تُنهي القطيعة القائمة بين الهوية والمناهج، وبين الأصالة ومحتوى المعرفة. ذلك أن أخطر مظاهر الاستلاب المعرفي اليوم يتمثل في استمرار النظم التعليمية في نقل معارف غربية بمفاهيمها ومناهجها، دون مساءلة للخلفيات التي تنبني عليها، مما يؤدي إلى إنتاج أجيال منقوصة الانتماء، مشوشة الرؤية، تحاول أن تُفكر بلغتين متعارضتين: لغة الانتماء الديني والثقافي، ولغة المرجعيات الغربية المتسللة في ثنايا المناهج والبرامج. ومن هنا، فإن أولى خطوات تفعيل الإلهام الذاتي تبدأ من تحرير المعرفة من التبعية، عبر بناء نموذج معرفي إسلامي معاصر، يستلهم من الوحي ويستفيد من التجربة الإنسانية، ويكون قادراً على توليد أدوات تحليل ومفاهيم تناسب سياقات الأمة وقيمها.
وإلى جانب التعليم، فإن مشروع النهضة ينبغي أن يستعيد الفاعلية من خلال تحرير النخب من التبعية، فالنخبة المثقفة، كما أشار بن نبي مرارًا، تتحمل مسؤولية مضاعفة في توجيه الوعي الجمعي، وإذا كانت النخبة ذاتها مأسورة لنموذج الآخر، فإنها تتحول إلى وسيلة لإدامة التخلف، لا للخروج منه. لذلك، فإن الإلهام الذاتي لا يتفعل إلا حين تملك النخبة الإسلامية الشجاعة لإعادة التفكير في المفاهيم المستوردة التي تُروّج وكأنها قدر لا بد منه، مثل الحياد القيمي في العلوم، أو فصل الدين عن الحياة العامة، أو مركزية النموذج الليبرالي في السياسة والاقتصاد. وتكمن خطورة هذه المفاهيم في أنها تخترق وعي المجتمعات عبر الخطاب الإعلامي والأكاديمي والترفيهي، فتبدو كأنها "علمية" أو "موضوعية"، بينما هي في حقيقتها تحمل تصورات وجودية وفلسفية مناقضة للرؤية الإسلامية للإنسان والحياة.
أما على مستوى الواقع السياسي والثقافي، فإن تفعيل مقولة الإلهام الذاتي يعني إعادة بناء الفعل العمومي على قاعدة من المرجعية الإسلامية الراشدة، التي تُعيد الاعتبار للإنسان بوصفه فاعلًا في التاريخ، لا مجرد تابع للقرارات الدولية، أو مستهلكًا لمنتجات الآخرين. وهذا يقتضي أيضًا إعادة التفكير في مفاهيم التنمية والنهضة، بحيث لا تُقاس فقط بالنمو الاقتصادي والمؤشرات الرقمية، بل تُقاس بمدى تحقق الكرامة الإنسانية، والتراحم، والعدالة الاجتماعية، ومركزية القيم في السياسات العامة. فالمجتمع الإسلامي الذي يُفعّل إلهامه الذاتي، هو ذاك الذي ينظر إلى الإنسان على أنه غاية لا وسيلة، وأن التقدم لا يُختزل في الاستهلاك أو الإنتاج المادي، بل في القدرة على صناعة إنسان حرّ، عارف، أخلاقي، مسؤول عن نفسه وعن مجتمعه، منفتح على العالم دون فقدان لروحه.
وحتى يكون هذا المشروع قابلاً للتطبيق، لا بد من وجود مؤسسات فكرية، وإعلامية، وثقافية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، تعمل على بلورة رؤية بديلة للواقع والمستقبل، وتُترجم المقولات النظرية إلى سياسات ومناهج وسلوك جمعي. ومثل هذه المؤسسات لا يمكن أن تنهض في ظل التبعية أو الهشاشة، بل تحتاج إلى إرادة سياسية وشعبية تستند إلى رؤية واضحة لذاتها، وتستمد شرعيتها من خدمة مشروع نهضة شاملة. كما يتطلب المشروع توجيه الموارد نحو تثبيت البنية الثقافية الداخلية، وتعزيز حضور النموذج الإسلامي في الحياة اليومية للناس، لا كقيد، بل كإطار للتوازن والفاعلية.
في ضوء ذلك، يظهر أن الإلهام الذاتي الذي تحدّث عنه مالك بن نبي لا يمكن أن يُفهم مجردًا، بل هو رؤية تكاملية تشترط نهضة فكرية وتربوية وثقافية وسياسية متزامنة، تفتح الطريق أمام الأمة لتجاوز حالة الارتباك والاستلاب، وتنقلها من موقع ردّ الفعل إلى موقع الفعل المبادر، في الداخل والخارج معًا. إنها دعوة لإحياء الروح الحضارية التي تستند إلى الوحي، دون أن تهرب من العصر، وتستفيد من منجزات الإنسان دون أن تُستلب، وتؤمن بأن الإسلام دين وثقافة ومنهج حياة وحضارة؛ أي منظومة شاملة قادرة على بناء المستقبل، إن توفرت العقول المؤمنة، والإرادات الصادقة، والمؤسسات المبدعة.
خاتمة
لقد كشفت القراءة التحليلية المتأنية لنص مالك بن نبي المكتوب عام 1956 عن عمقٍ في الرؤية، وسبقٍ فكري في تشخيص أزمة العالم الإسلامي، وتحديد معالم النهضة الممكنة ضمن سياق حضاري مأزوم عالميًا. لم يكن النص مجرّد موقف آني من علاقة المسلم بالغرب، بل كان تأسيسًا منهجيًا لرؤية شاملة تنظر إلى المشروع الحضاري الإسلامي بوصفه مشروعًا لا يُستورد ولا يُقلَّد، بل يُستأنف من منابع الذات، ويُبنى على قاعدة الإيمان والوعي والفكرة الفاعلة.
لقد نبّه بن نبي بوضوح إلى أن السعي إلى "الهدى خارج حدود العالم الإسلامي" لا يؤدي إلا إلى التيه والتبعية، لأن الحضارة الغربية، رغم منجزاتها التقنية والتنظيمية، باتت تعاني من خواء قيمي وروحي، وقد اقتربت، بل بدأت، "قيامتها" بمعناها القيمي، حيث تفقد الحضارات قدرتها على منح الإنسان معنى لحياته وموقعًا في التاريخ. هذه المقولة التي بدت لبعض معاصريه متشائمة أو مغرقة في التنظير، أصبحت اليوم أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى، في ظل الأزمات الأخلاقية، والاغتراب الوجودي، والتشظي الاجتماعي الذي يعيشه الغرب.
لكن بن نبي، في حكمته واتزانه، لم يقف عند حدود النقد، بل دعا إلى توازن نادر بين الإلهام الذاتي والانفتاح المنظم. فالعالم الإسلامي، في نظره، لا يمكنه العيش في عزلة، ولا ينبغي له أن يقطع علاقاته مع الحضارة الغربية، بل عليه أن يعيد تنظيم هذه العلاقة على أسس من الوعي الذاتي، والتفاعل الانتقائي، والانطلاق من مرجعية حضارية خاصة. وهنا تبرز عبقرية فكره؛ إذ إنه يُقدّم بديلاً عن الانغلاق القومي، كما يُقدّم بديلاً عن الذوبان في الآخر، ويدعو إلى حضور حضاري رشيد، يُنتج، ويُفكّر، ويُسهم من موقع الفاعلية الحضارية.
وفي ضوء التحولات العالمية الراهنة، من تصاعد العولمة الرقمية، إلى اضطراب القيم في الغرب، إلى تعثّر مشاريع النهضة في العالم الإسلامي، تتأكد الحاجة الملحّة إلى استئناف قراءة مالك بن نبي، لا بوصفه مفكرًا تاريخيًا، بل باعتباره مهندسًا للنهضة، بلغة العصر وبروح الأمة. فالنموذج الذي يدعو إليه ليس نموذجًا منغلقًا ولا مثاليًا، بل هو مشروع إنساني-إسلامي يُعيد للإنسان المسلم ثقته بنفسه، ويُعيد له القدرة على المبادرة، ويضعه في قلب حركة التاريخ، لا على هامشه.
إن ما يطرحه بن نبي، في نهاية المطاف، ليس أقل من ثورة هادئة تبدأ من داخل الإنسان، وتتجه إلى إعادة تشكيل العالم. وهذه الثورة لا يمكن أن تُنجزها الدولة وحدها، ولا النخبة الفكرية وحدها، بل تحتاج إلى تكاتفٍ مجتمعي، ورؤية استراتيجية، وإيمان راسخ بأن التاريخ لا ينتظر المنهزمين، بل يُصنع على يد أولئك الذين يؤمنون بفكرتهم ويصبرون على تفعيلها. إن العالم الإسلامي، إذا أراد أن ينهض، فعليه أن يُجدد صلته بمفكرين من طراز مالك بن نبي، لا ليكرر أقوالهم، بل ليُحوّلها إلى مشاريع واقعية، وخطط ثقافية، ومناهج تعليم، ومؤسسات مستقلة، تجعل من "العودة إلى الذات" روحًا، ومن "الانفتاح على الآخر" سياسة واعية، لا هروبًا من الذات ولا تضخمًا فيها.
وبذلك، فإن نص مالك بن نبي، على قِصره، يشكّل وثيقة حضارية بامتياز، تصلح أن تُعاد قراءتها جيلاً بعد جيل، لتذكّرنا دومًا أن النهضة لا تُمنح، بل تُصنع من داخل الإنسان، حين يعرف من هو، وإلى أين يريد أن يسير، وبأي قيمٍ وأفكارٍ يُريد أن يبني عالمه.