التفكير السُّنَنِي ومنهجيات الإصلاح والتغيير والنهوض الحضاري

التفكير السُّنَنِي ومنهجيات الإصلاح والتغيير والنهوض الحضاري
مقدمة
تُعدُّ السُّنَنِية إحدى الخصائص الجوهرية التي تُميز الرؤية القرآنية للعالم، إذ تتأسس على مبدأ أن حركة الكون والإنسان والاجتماع تخضع لقوانين إلهية ثابتة لا تحابي أحدًا. وقد بسط القرآن هذه السنن في مجالات متعددة، سواء في التكوين الطبيعي، أو الإنساني، أو العمران البشري، أو في سنن النصر والهزيمة والتمكين والسقوط والتدافع والتداول، وغيرها. وقد أكد القرآن على ثبات هذه السنن بقوله: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 62)، وقوله: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ (الإسراء: 77). وهي تأكيدات تُثبت أن التاريخ لا يسير اعتباطًا، ولا يخضع للمصادفات، بل يتبع قوانين دقيقة يمكن قراءتها وفهمها واستثمارها في عمليات الإصلاح والتغيير والنهضة الحضارية.
من هذا المنطلق، يطرح هذا المقال سؤالًا مركزيًا: كيف ينعكس التفكير السُّنَنِي على منهجيات الإصلاح والتغيير والنهوض الحضاري؟ وبصيغة تفصيلية: كيف يمكن توظيف السنن الإلهية بوصفها نظامًا معرفيًا وعمليًا في فهم مشكلات الأمة المعاصرة، وفي بناء رؤية إصلاحية حضارية متكاملة؟
أولًا: ماهية التفكير السُّنَنِي ومكانته في الرؤية الإسلامية
السنن، جمع "سُنّة"، وتعود في أصلها اللغوي إلى معنى الجريان والاطِّراد بسهولة وانتظام، كما تشير إلى الطريقة المعتادة أو المنهج المتبع، وتُطلق كذلك على العادة أو النهج العام في الأمور. ويتمحور معناها اللغوي حول النفاذ الممتد في الشيء على نحو يُهيّئه ويُسوّيه. وقد جاءت بمعنى الطريق أو المنهج المستمر، كما في قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ (الإسراء: 77)، أي أن السُّنّة تصرّف أو نهج مهيّأ للاستمرار والصلاحية الدائمة، قائم على الامتداد والنفاذ.
وقد ورد لفظ "السُّنّة" في القرآن الكريم ست عشرة مرة، بصيغ مختلفة، وفي سياقات متعددة، تدلّ جميعها على المعنى العام للعادات الجارية والطرائق الثابتة والسير المستمر في واقع الناس، أو في تعامل الله مع خلقه. فـ"سُنّة الله" تُطلق على نمط حكمته الجارية، وسيرته في خلقه، كما في قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (الفتح: 23)، وهي دالة على نسق إلهي لا يتبدل ولا يتخلف.
وعند نسبتها إلى الله تعالى، فإن السُّنّة تعني "القانون الإلهي الجاري في الخلق"، فهي طريق عام وسيرة ربانية تجري وفقها أفعال الله في عباده، كما في قوله تعالى: ﴿سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦ﴾ (غافر: 85)، فهي سنن إلهية مطّردة تحكم مجريات الحياة والوجود، بحسب ما كسب الناس من سلوك وأفعال.
وقد تنوعت عبارات المفسرين في بيان معنى "السُّنن"، لكنها تجتمع جميعًا حول مضمون واحد، وهو أنها طرائق الله الجارية وسُننه الثابتة التي يعامل بها عباده وفق ما يصدر عنهم من أفعال، حسنًا كانت أو سوءًا. وهي بهذا الاعتبار تمثل القوانين التي سنّها الله ونظّم بها حركة الكون والمجتمعات.
ويعرفها الدكتور رشيد كهوس في حوار له منشور على صفحة مركز الأمانة للأبحاث والدراسات بقوله: “السنن الإلهية هي: إرادة الله الكونية، وأوامره الشرعية، وأفعاله المطلقة، وأحكامه القدرية في وقائع الاجتماع البشري، وكلماته التامات، ووعوده الحقة، وحكمته في آفاق الكون وتسلسل التاريخ، الجارية بالعباد من المعاش إلى المعاد"، وبتعبير آخر، "هي المنظومة السُّنَنِية الحاكمة لصيرورة العمران البشري، الناظمة لحركة الاستخلاف الإنساني والوجود الكوني وسير المجتمعات عامة، ولسلوك الإنسان وحركته في المجتمع، وصيرورته في عالم الشهادة الدنيوي، وفاعليته في التاريخ خاصة، التي تهدف إلى إصلاح الإنسان –فردًا ومجتمعًا وأمةً– في المعاش وإسعاده في المعاد، وتحقيق شهوده العمراني على الأمم."
ما تفضل به الدكتور كهوس يقدم تعريفًا مركبًا للسنن من خلال مستويين من التعبير؛ المستوى الأول يعرض عناصرها التكوينية التي تشمل إرادة الله الكونية، والأوامر الشرعية، وأحكامه القدرية، وأفعاله المطلقة، وكلماته التامات، ووعوده، وحكمته في الكون والتاريخ. وهذه العناصر ترسم تصوّرًا توحيديًا شاملًا للسنن، بوصفها جزءًا من أفعال الله الجارية في الوجود البشري والطبيعي. أما المستوى الثاني، فيقوم بتوسيع المعنى ليبرز الوظيفة الحضارية والسُّنَنِية لهذه القوانين، حيث تصبح السنن منظومة حاكمة لصيرورة العمران البشري، وموجهة لحركة الإنسان في المجتمع، ولعلاقته بالتاريخ، ولتمثله لدور الاستخلاف. هذا التصور ينقل السنن من نطاق القانون التفسيري المجرد إلى كونها آلية فاعلة في التاريخ والاجتماع والسياسة والثقافة، ويربطها بمقاصد كبرى كإصلاح الإنسان في واقعه، وإسعاده في مآله، وتحقيق شهوده العمراني كأمة ذات رسالة.
ومن هنا، فإن هذا التصور للسنن يتصف بالشمول والاتساق، ويجمع بين البُعدَيْن: القدري والتكليفي، ويتمركز حول الإنسان باعتباره فاعلًا مكلفًا في واقع محكوم بقوانين لا تحابي، وهي قوانين لا تقتصر على التفسير، بل تحمل وظيفة هادية تُعين الإنسان على أداء مهمته الحضارية. وبهذا لا تُفهم السنن باعتبارها قوانين طبيعية صمَّاء، بل هي دلائل إلهية تُفَعِّل عقل الإنسان وإرادته وفق حكمة ربانية تهدف إلى تحقيق التوازن بين المعاش والمعاد، والفرد والمجتمع، والعمران والقيم.
كما يُبرِز التعريف رؤية مبدئية تجعل من فهم السنن شرطًا لازمًا للإصلاح والنهضة، إذ لا يمكن للإنسان أن يغير واقعه من دون وعي بالقوانين التي تحكم الوجود والتاريخ، كما لا يمكنه الشهود في العالم ما لم يُحسن قراءة حركة السنن واستثمارها في إصلاح ذاته ومجتمعه.
وهذا يبين أن أحد أبرز الملامح المنهجية المتميزة في الرؤية الإسلامية للكون والإنسان والتاريخ هو الإيمان بأن هذا الوجود محكومٌ بنظام دقيق، وبقوانين ثابتة، لا مجال فيها للعبث أو الفوضى. لقد قرر القرآن هذه الحقيقة حينما وصف الخلق بأنه محكوم بقدر وحساب: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، وفي موضع آخر قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 62]، وهي آيات تُقرّر بوضوحٍ أنَّ لله في خلقه قوانين مطّردة تحكم سَير الأحداث، وتربط الأسباب بالنتائج، وتحقق الغايات والمقاصد.
والسنن الإلهية، في هذا السياق، ليست مجرد قوانين طبيعية تتعلّق بالفيزياء أو المادة، وإنما تشمل كذلك قوانين الاجتماع والتاريخ والحضارة. فالسنن هي القوانين الثابتة التي أودعها الله في عوالم الآفاق (الكون والطبيعة) والأنفس (الإنسان والمجتمع والتاريخ)، لتُحقّق التوازن الكوني والغائية الوجودية، وتوجّه حركة العالم نحو تحقيق الاستخلاف. ومن هنا نشأ ما يمكن تسميته بـ"المعرفة السُّنَنِية"، وهي إدراك الإنسان لهذه القوانين الإلهية، ومحاولة وعيها والتعامل معها وفق مقتضياتها. وإذا كانت العلوم الحديثة تسعى لاكتشاف قوانين الطبيعة وتفسيرها، فإن المعرفة السُّنَنِية توسع الأفق ليتضمن الوعي بالقوانين الطبيعية وتفسيرها واستثمارها، وكذلك اكتشاف قوانين التاريخ والمجتمع والعمران، والسعي لفهم العلل والعوامل التي تحكم صعود الأمم وسقوطها، وعمران الشعوب وانهيارها، وازدهار الحضارات وتقهقرها.
وعليه، فالتفكير السُّنَنِي هو ذلك النمط من التفكير الذي يتجاوز القراءات السطحية أو الانفعالية للواقع، إلى قراءة واعية تبحث في الجذور والأسباب لا في النتائج. وهو تفكير يجمع بين الإيمان بقدر الله وبين فهم قوانينه، بين التوكل والعمل، وبين الدعاء والتخطيط. إنه وعي يقوم على إدراك أن العالم يسير بمنطق سنني دقيق، يربط بين الفعل والمآل، وبين السلوك الفردي والجماعي، وبين مصير الأمم. وقد قرر القرآن هذه الرؤية في عشرات المواضع، وأبرزها قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: 53]، وقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
من هذا المنطلق، فإن التفكير السُّنَنِي يُمثّل ركيزةً معرفيةً مركزيةً، بل هو أحد أعمق أدوات الوعي الحضاري، لأنه يُحوّل الفهم إلى مجال الفعل الواعي والمسؤولية التاريخية. كما يدعو الفكر السُّنَنِي إلى البحث في الأسباب الذاتية، وفي عوامل الضعف البنيوي داخل المجتمعات نفسها. وبدل أن يُنتظر النصر بطريقة استسلامية دون عمل، يقتضي المنطق السُّنَنِي أن يُبنى النصر خطوةً خطوةً، على قاعدة من الإصلاح الذاتي، وتزكية النفوس، وبناء المنظومات المعرفية والسلوكية والمؤسساتية المؤهّلة لحمل مشروع التغيير.
وفي ضوء ذلك، فإن التفكير السُّنَنِي منهج للتغيير وصناعة المستقبل. فالأمم التي تفقه السنن تدرك أن المجد لا يُورث، وأن النهوض لا يكون بلا إعداد. وتدرك في الوقت نفسه أن النصر لا يأتي إلا حين تُستوفى شروطه، وأن الهزيمة نتيجة من نتائج التقصير أو الفساد أو غياب الوعي.
ثانيًا: التفكير السُّنَنِي ضد العقلية التبريرية
التفكير السُّنَنِي يُحدِث تحولًا معرفيًا جذريًا في الرؤية الإصلاحية، لأنه يقف على النقيض التام من "العقلية التبريرية" التي سادت في فترات الانحطاط الذي حصل للمسلمين، والتي طالما علّقت الإخفاقات على مشيئة غامضة، أو على فاعلين خارجيين، أو على مؤامرات لا تنتهي، متجاهلة بذلك القوانين التي تحكم حركة التاريخ والاجتماع والعمران. هذه العقلية تُبرِّر العجز، وتُؤبِّد الانكفاء، وتعزل الأمة عن القدرة على التأثير في مجريات وجودها، لأنها تضعها في موقع رد الفعل بدل الفعل، وفي موقع الانتظار بدل المبادرة.
ولقد نبَّه القرآن الكريم إلى هذه المغالطة المنهجية والفكرية عندما قرر القاعدة الكبرى في التحوُّل الاجتماعي: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، أي أن التغيير لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل الإنساني والمجتمعي، عبر إدراك الخلل والعمل على تغييره. وهذه الآية تُجلي المفارقة الجوهرية بين من ينتظر التغيير دون بذل الأسباب، وبين من يسعى لقراءة السنن وفهم علل الواقع وتحريك العوامل الفاعلة فيه.
في ضوء هذا، فإن التفكير السُّنَنِي يشكّل نقلة نوعية من "القدرية السلبية" - التي تُؤَوِّلُ الفشلَ وكأنه قدرٌ محتومٌ لا مناص منه - إلى "الفاعلية السُّنَنِية" التي تنطلق من أن لله سننًا في النهوض والانحدار، لا تحابي أحدًا، بل تتعامل مع المجتمعات على قدر التزامها بهذه السنن. ومن ثم فإن المجتمعات التي تنكص عن الإصلاح، أو تغفل عن الأسباب الحقيقية لتخلفها الحضاري، إنما تحكم على نفسها بالجمود والتكرار.
وهذا الفهم هو ما يجعل التفكير السُّنَنِي أساسًا لنقد الفكر الخرافي والفكر الكسول، الذي طالما اختزل التغيير في انتظار منقذ مجهول أو ظهور المعجزة أو زوال العدو من تلقاء نفسه، متناسيًا أن كل نهضة في التاريخ كانت فعلًا بشريًا واعيًا، وأن السنن لا تُخترق لمصلحة أحد. 
وهكذا، فإن التفكير السُّنَنِي لا يقتصر على الفهم، بل يمتد إلى تشكيل العقلية الحضارية الفاعلة التي تؤمن بأن التغيير لا يُستَورَد، ولا يُصنّع خارج إرادة الأمة، بل يُبنى من داخل الإنسان، ومن داخله فقط تبدأ رحلة الإصلاح. وهذا ما يجعل الفكر السُّنَنِي منهجًا عمليًا، لا مجرد نظرية تجريدية، لأنه يحوّل المُصلِحَ من ناقدٍ للواقع إلى مهندسٍ له، ومن مستهلكٍ للفكر إلى صانعٍ له، ومن متألمٍ من التاريخ إلى شريكٍ في صناعته.
بذلك، يصبح الفارق بيِّنًا بين من يعيش داخل عقلية التبرير والتواكل، فينتج خطابًا بكائيًا مشلولًا، وبين من ينطلق من رؤية سننية ناهضة، تؤمن بأن الله قد أودع في الكون قوانين، وأن من سار على نهجها بلغ مقصوده، ومن أعرض عنها فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ثالثًا: السُّنَنِية والتأسيس الواقعي لمنهج الإصلاح
التفكير السُّنَنِي يُعطي جهود الإصلاح "أقدامًا" تمشي على أرض الواقع، ويُخرجها من دائرة الأوهام والنيات الحسنة والشعارات الفضفاضة، إلى دائرة العمل الفاعل المؤسَّس على قوانين التاريخ والاجتماع البشري. فالتفكير السُّنَنِي لا يتعامل مع الواقع كحالة جامدة تحتاج إلى صدمة عاطفية أو انقلاب مفاجئ، بل بكونه حالة حيّة تتحرك وفق شروط وقوانين دقيقة، لا يتجاوزها من أراد التغيير، بل يَعبُر من خلالها.
فالسُّنَنِية إذًا هي أساس المنهج الواقعي في الإصلاح. فهي تُلزِم المصلح بفهم الواقع قبل تغييره، وتربطه بسنن الآفاق والأنفس والمجتمع والتاريخ، ليكون تدخّله إصلاحًا لا انفعالًا، واستجابة لقانون لا تمرّدًا عليه. فليست كل رغبة في الإصلاح إصلاحًا، ما لم تكن منضبطة بمقدمات صحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة. وهذا ما يميّز التفكير السُّنَنِي عن غيره.
ومن أهم ركائز هذا الفهم: أن الإصلاح يبدأ من الإنسان لا من الأنظمة فقط، وأن التغيير الخارجي لا يُنتج أثرًا دائمًا ما لم يُواكبه تغييرٌ داخليٌّ في وعي الناس وفكرهم ومواقفهم. فالإنسان في الفكر السُّنَنِي هو المحور لا الملحق، هو الذات الفاعلة لا الموضوع المتأثِّر. وهذا ما عبّر عنه مالك بن نبي بمنهجيته العميقة، حين اعتبر أن "الإنسان هو أول عناصر الحضارة"، وأنه متى فُقدت فعاليته تعطلت الحضارة نفسها. وقد لخّص مشروعه كله في معادلته: "إنسان + تراب + وقت = حضارة"، ليؤكد أن مادة الحضارة ليست في الموارد فقط، بل في تفعيل الإنسان أولًا، بوصفه عقلًا يعي، وإرادة تتحرك، وضميرًا يستبصر.
ويترتب على هذا أن أولى مراحل الإصلاح ليست هي تغيير القوانين أو الأنظمة أو المؤسسات، بل إصلاح الأفكار وتحرير الوعي وبناء الإنسان من الداخل. فالأنظمة ليست سوى انعكاسًا لما ترضاه الشعوب أو تسكت عنه، وما لم يتغير الإنسان، ستُعيد الأنظمة إنتاج الفشل نفسه بأشكال مختلفة. ولهذا، فإن النهضة لا تُبنى على انفعالات الجماهير، بل على ترشيد العقول وتزكية النفوس، وهو ما لا يتحقق إلا بوعي سننيّ، يدرك العلاقة بين العمل والنتيجة، وبين السبب والمآل.
من ناحية أخرى، يدعو التفكير السُّنَنِي إلى إدراك سنة التدرّج والتراكم والعمل طويل النفس، بدل الوقوع في فخ التغيير الفجائي أو الانقلابات اللحظية. كما أن الفكر السُّنَنِي يعلمنا أن التاريخ لا يتحرك بطريقة سحرية، وأن الإصلاح ليس مشروعًا عاطفيًا أو ارتجاليًا، بل هو مسيرة حضارية، تبدأ من بناء الفرد وتنتهي بإصلاح الكيان العام. وكل قفزٍ على هذه السنن لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الأزمة، وربما بأسوأ مما كانت عليه.
لهذا فإن المفكر السُّنَنِي لا يتوهم أن استيراد نموذج، أو ترديد خطاب، أو استثارة جمهور، كافٍ لإحداث نهضة. بل يعرف أن النهضة لا تشتعل إلا إذا اشتعل الوعي، وأن الوعي لا يُصاغ إلا بالتربية، والتعليم، والتنظيم، وبناء النخبة، وترسيخ القيم، وزرع الرؤية الحضارية في الجيل الصاعد.
بهذا الفهم، يُعيد التفكير السُّنَنِي ضبط البوصلة الإصلاحية من أعلى إلى أسفل، ومن الخارج إلى الداخل، ومن الفورات إلى البناء المتين، ومن استنساخ التجارب إلى فهم السنن التي تحكم نجاحها أو فشلها. وبذلك، يتحول الإصلاح إلى مسار حضاري ناضج، لا إلى فورة مؤقتة أو صدام كارثي مع الواقع.
رابعًا: التفكير السُّنَنِي واستيعاب سُنن التدافع والصراع
يُعد فهم سنة التدافع من أبرز مظاهر التفكير السُّنَنِي وأكثرها حضورًا في الوعي الحضاري القرآني. فالقرآن الكريم يقرر بوضوحٍ أن الصراع بين الحق والباطل ليس طارئًا على التاريخ، بل هو قانونٌ لازمٌ لحفظ التوازن في العالم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]، وقوله: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗا﴾ [الحج: 40]. إن هذه السنة تدلّ على أن بقاء القيم، والمؤسسات، والمقدسات، لا يتحقق إلا في ظل هذا الدفع المتواصل بين قوى الخير والشر، والحق والباطل، والتوحيد والكفر، والصلاح والفساد.
ومن خلال هذا الفهم، يصبح التدافع سُنَّةً لا استثناءً، وأمرًا ضروريًا لبقاء الحياة على سويّتها الأخلاقية، وليس مجردَ عرضٍ طارئٍ يمكن تجاوزه عبر الخطابات التوافقية أو الأُمنِيَات الساذجة. ولهذا، فإن الوعي السُّنَنِي يحرّر الإنسان من أوهام الحياد الحضاري أو إمكانية تجاوز صراع القيم، ويؤكد أن معركة الحق لا تُخاض خارج ميدان الصراع، بل ضمنه، وأن بقاء كلمة الله في الأرض مرهون باستمرار فاعلية أهل الحق وصمودهم.
كما أن التفكير السُّنَنِي يُعلّم الإنسان أن هذا التدافع لا يُحسم بالعاطفة أو الحماسة أو الشعارات، بل بمنهجية واعية تُراكم الفعل، وتستوعب سنن النصر والهزيمة، وتُخضع الجهد البشري لشروط التمكين. فالنصر لا يتحقق لمجرد أن "الحق هو الحق"، بل لأنَّ حَمَلَةَ الحقِّ استوفوا شروطه، وأعدُّوا له عدته، وتحمّلوا تكاليفه. ولعلَّ هذا ما يوضحه قول الله تعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٞ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، حيث تؤكد الآية أن التداول سنةٌ من سنن التاريخ، وأن الهزيمة ليست مؤشرًا على بطلان الفكرة، كما أن النصر المؤقت للباطل ليس دليلًا على شرعية مشروعه.
وفي هذا السياق، يرفض التفكير السُّنَنِي أن يُحوَّل الدين إلى مظلة لتبرير الانهزام أو القدَرية المريحة، بل يكشف أن الهزيمة، حين تقع، فإنها تعبير عن اختلال في ميزان السنن، نتيجة فشل بشري في الفهم أو التخطيط أو السلوك. وهذا ما تشير إليه قراءة واقعة «أُحُد»، حين بيّن الله أن سبب الهزيمة لم يكن نقصًا في صدق النبي ﷺ ولا في عدالة القضية، بل في فشلٍ جماعيٍ في الالتزام والانضباط والتنظيم: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 152]. وهنا تتجلّى وظيفة التفكير السُّنَنِي في تفكيك الأسباب الموضوعية للهزائم والانكسارات، وتوجيه العقل المسلم إلى تجاوز ثقافة التبرير إلى ثقافة التغيير.
لقد ميّز مالك بن نبي في هذا المجال بين الاستعمار كفعلٍ خارجيٍّ، والقابلية للاستعمار كخللٍ داخليٍّ في بنية الأمة، مؤكدًا أن الاحتلال لا يتم إلا حين تستوفي البيئة شروط الضعف والتفكك. وبالتالي، فإن تجاوز هذا الضعف لا يكون بالدعاء أو التمنّي، بل بإعادة بناء الوعي والعلاقات ومصادر القوة الذاتية. ومن هنا، يظهر أن التفكير السُّنَنِي لا يتوقف عند تشخيص العطب، بل يرسم منهجيةً للمدافعة الحضارية، تقوم على الصبر الإستراتيجي، والإعداد الطويل، والإيمان بأن الهيمنة ليست قدرًا أبديًا، بل حالةً تاريخيةً تخضع لسنة التداول: ﴿وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 140].
ولأن التفكير السُّنَنِي يجمع بين البصيرة والعمل، وبين الواقعية والأمل، فهو يُنتج عقلًا مقاومًا لا يغترّ بالانتصار، ولا ينهار عند الهزيمة، بل يدرك أن معركة الحق لا تنفصل عن شرطها التاريخي ومقدار تحقق السنن فيها.
خامسًا: السُّنَنِية والتوازن بين المثالية والواقعية
التفكير السُّنَنِي يُقدّم للمشروع الإصلاحي رؤيةً متوازنةً بين المثالية والواقعية، بحيث لا يُفرّط في المبادئ، ولا يُغفل حدود الواقع. ففي الوقت الذي تندفع فيه بعض التيارات الإصلاحية إلى أقصى درجات المثالية، مطالبةً بتغييرٍ شاملٍ وفوريٍّ يُعيد إنتاج "المدينة الفاضلة"، نجد تيارات أخرى تنكفئ نحو الواقعية المنهزمة، فتتكيّف مع الواقع وتبرّر القعود باسم "الممكن"، وتنتهي إلى الاستسلام والذوبان. وهنا يأتي التفكير السُّنَنِي ليُعيد ضبط الإيقاع بين طرفَي النقيض، عبر فهم دقيق للسنن التي تحكم حركة المجتمعات، وسُبل التغيير، ومآلات الفعل البشري.
فالتفكير السُّنَنِي لا ينطلق من عالم المثال المجرّد، بل من سنن ربانية تحكم التاريخ والاجتماع، وتربط النتائج بمقدماتها. وهذه السنن لا تُقصي القيم، لكنها تشترط تنزيلها بحكمة، ووفق معادلات واقعية تراعي الزمن، والبنية الاجتماعية، ودرجة النضج الحضاري. فمثلًا، الدعوة إلى العدل، أو الحرية، أو الشورى، أو النزاهة، هي مبادئ جوهرية في المشروع الإسلامي، لكن تطبيقها لا يتم دفعة واحدة ولا خارج شروط الوعي المجتمعي، وإلا انقلبت إلى شعارات تُستعمل ضدها.
كذلك، يُسهم التفكير السُّنَنِي في بناء عقلٍ إصلاحيٍ يُفرّق بين الممكن والمطلوب، وبين ما ينبغي فعله وما يمكن فعله الآن، دون خيانة للقيم أو انبطاح للواقع. وهذا التوازن لا يتأتّى إلا بفهم سُنن التحوّل في المجتمعات، لا سيما سُنن التدرج، والتعقيد الاجتماعي، وبطء التغيير العميق. فالمثالية حين تُفقد الوعي بالسنن تتحول إلى عبءٍ، والواقعية حين تُفقد الإيمان بالمُثل تنتهي إلى العبث.
لذلك، يدعو التفكير السُّنَنِي إلى ما يسميه بعض المفكرين بـ"المثالية العملية" أو "الواقعية المؤمنة"، وهي التي ترى المبادئ النبيلة بعيون الممكن، وتتحرك نحوها بخطى محسوبة لا قفزات عشوائية. وهذا النهج هو ما طبّقه النبي ﷺ في بناء المجتمع المدني، حين لم يَفرِض كل القيم دفعةً واحدةً، بل غَرَسَها في النفوس، وهيّأ لها الأرضية، وتعاملَ مع الواقع بمرونة القائد، لا بجمود المُنَظِّر، حتى تحوَّلت تلك القيم إلى واقعٍ معاشٍ، لا مجردَ نصوصٍ منزَّلةٍ.
خاتمة: نحو مشروع إصلاحي سنني شامل
ختامًا نقول: إن التفكير السُّنَنِي ليس ترفًا فكريًا، بل هو أساسٌ ضروريٌّ لأي مشروع إصلاحي حضاري جاد، لأنه يوفر المنهج العلمي لفهم الواقع، وتحليل التاريخ، واستشراف المستقبل، ويمنح الفعل الإصلاحي قاعدةً معرفيةً صلبةً. فالإصلاح لا ينبني على العواطف والانفعالات، بل على وعي بقوانين تَحْكُمُ حركة المجتمعات صعودًا وهبوطًا. ومن هنا تأتي أهمية السُّنَنِية باعتبارها فلسفةً شاملةً لفهم الإنسان والكون والتاريخ، ومنهجًا عمليًا لإحداث التغيير.
والمشروع الإصلاحي المنشود لا بد أن يقوم على هذا التفكير من عدة أوجه متكاملة: فهو أولًا يوفر وعيًا حضاريًا يُعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين القيم والفعل، وثانيًا يكسر الثنائيات العقيمة ويؤسِّس لمنطق التكامل بين مكونات العمل الإصلاحي، وثالثًا يوجّه الفعل ضمن مسار سُنَنِي يبدأ من الداخل (النفس، والعقل، والوعي) وينتقل إلى البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية. كما أن السُّنَنِية لا تكتفي بالتنظير بل توجّه نحو بناءٍ شاملٍ لمجالات الحياة الحضارية من تعليم واقتصاد وقيم وإبداع وسياسة، وتهيّئ الإنسان للقيام بمسؤوليته في التغيير، بعيدًا عن الاستقالة من الفعل أو تبريره بالقدر.
ومن جهة أخرى، تمثل السُّنَنِية حلًّا لأزمة الفكر التجريدي المنفصل عن الواقع، حيث تربط النص بالسياق، والمقاصد بالوسائل، وتمنح للفكر الإسلامي مشروعية الفعل وقدرته على الإنجاز. وهي كذلك تربط التاريخ بالواقع والمستقبل، فتُكسب الوعي الجمعي ذاكرةً حضاريةً حيةً قادرةً على التعلم من التجارب، واستخلاص القوانين الكونية التي لا تحابي أحدًا.
غير أن تفعيل التفكير السُّنَنِي لا يتم بشعارات مجردة، بل من خلال مؤسسات قادرة على تحويله إلى برامج تعليمية، ومشاريع بحثية، وخطط إعلامية، وسياسات عامة، تنقل هذا الفكر من دائرة النخبة إلى فضاء الأمة. فالطاقة والنية لا تكفيان وحدهما، إنما يُحتاج إلى منهجٍ عميقٍ، والسُّنَنِية هي التي تملك قدرة تنظيم الجهود وتوجيهها نحو مشروعٍ نهضويٍّ فعالٍ.
ويبدأ هذا المشروع من إعادة بناء العقل المسلم وتحريره من الجبرية والسطحية، وتعليمه القراءة السُّنَنِية للقرآن والتاريخ والواقع، قراءةً تؤمن أن التغيير سُنَّةٌ، وأن الفاعلية قَدَرٌ، وأن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.