عندما تسمع صوت أم كلثوم وهي تدندن أغنية حديث الروح، تحملك تلك النبرة العميقة إلى عالم كاتب القصيدة، إلى ذلك الفكر الذي صاغ كلماتها بروحٍ مفعمة بالحب والشعر والعرفان والعاطفة. ومن هنا يمتد الخيط الطبيعي نحو صاحب القصيدة: محمد إقبال، المفكر والشاعر والفيلسوف الباكستاني، الذي انشغل بقضايا الإسلام والعرفان.
اهتم إقبال بإحياء الصلة بين الإسلام والحضارة الإسلامية، فرفض أي محاولة لفصلهما، معتبرًا أن تجديد الدين يرتكز على إحياء الحضارة. ورأى أن بقاء الإسلام كثقافة وقانون وحضارة يرتبط بالتغيرات الناشئة عن تطور العلوم الجديدة. ومن هذا المنطلق دعا إلى ضرورة بحث المسائل الفقهية بما يتوافق مع متطلبات العصر واحتياجاته.
وقد وضع إقبال يده على ما اعتبره أكبر مشكلة تواجه المسلمين: أزمة الهوية والابتعاد عن التعاليم الإسلامية. واقترح لهذا التحدي حلًّا يقوم على إنشاء منظمات حكومية منفصلة في المناطق التي يقطنها المسلمون، تُبنى على مبادئ الإسلام، بما يعزز الهوية الإسلامية ويثبتها.
وتميّز فكر إقبال بقوة اتساقه؛ إذ وضع أسسًا واضحة للسلوك العرفاني المعتدل، وبيّن إمكان الجمع بين الروحانية والمادية دون تعارض. كما اعتقد أن على المسلمين الإفادة من العلوم الحديثة والتكنولوجيا الغربية من أجل إحياء الحضارة الإسلامية، ورأى أن عدم مواكبة حركة المسلمين للعصر سيجعل الإسلام دينًا كسائر الأديان، معرضًا لفقدان ثقافته وقوته وتكوينه كنظام وقانون للحياة.
وانطلاقًا من هذا الهمّ الحضاري نفسه، دعا إقبال إلى حركة شبابية تستند إلى الإسلام بقراءات جديدة تلائم العصر، وتقدم صيغًا حديثة لصياغة الفقه الإسلامي وفق الاحتياجات الراهنة، بعيدًا عن الالتزام الحرفي بالفهم الفقهي للمسلمين المتقدمين. وقد صرّح في كتبه قائلًا:
على مدى السنوات الـ35 الماضية كرست حياتي لإيجاد طرق لتكييف الثقافة والحضارة الإسلامية مع الثقافة والحضارة الحالية. هذا هو هدفي الوحيد على مر العصور.
وتتجلى رؤيته الفلسفية أيضًا في حديثه عن الختامية، وفي تأسيسه لفلسفة الذات، وشرحه لمسار العودة إليها وكشف أسرار فقدها، كما يظهر بوضوح في كتابه أسرار الذات. ومن هذا الباب يمكن الانتقال من أفكاره العامة إلى عمق رؤيته حول الذات والإصلاح الديني وإحياء الحضارة الإسلامية.
يتبع في الجزء الثاني.