شهد علم الاجتماع منذ بدايات القرن العشرين تحوّلات فكرية كبيرة في تفسير السلوك الإنساني والجمعي. فبعد أن ركّزت النظريات الكلاسيكية على العقلانية والمصالح المادية، جاء التيار الوجداني ليردّ الاعتبار للعاطفة بوصفها عنصرًا محوريًا في تشكيل الأفعال الفردية والجماعية. وتُعدّ نظرية العواطف الاجتماعية (Social Emotions Theory) من أبرز الاتجاهات المعاصرة التي أعادت صياغة فهمنا للدوافع الاجتماعية، حيث تنظر إلى العاطفة باعتبارها قوة محركة للوعي والانتماء والعمل الجماعي، وليست استجابة نفسية فردية.
	أولًا: الجذور النظرية والتطور التاريخي
تعود جذور هذا الاتجاه إلى أفكار علماء الاجتماع الأوائل مثل إميل دوركهايم (Émile Durkheim) الذي رأى في مشاعر القداسة والخشوع الجماعي أثناء الطقوس الدينية أساسًا لتماسك المجتمع، وإلى ماكس فيبر (Max Weber) الذي تناول البعد القيمي والعاطفي في الفعل الاجتماعي. إلا أنّ النظرية بصيغتها الحديثة بدأت تتبلور في نهاية القرن العشرين، مع أبحاث أرلي راسل هوشكايلد (Arlie R. Hochschild) في كتابها “The Managed Heart” الصادر عام 1983، حيث طرحت مفهوم “إدارة العواطف” في المؤسسات والعمل، مبيّنة كيف يُعاد تشكيل المشاعر لتخدم أغراضًا اقتصادية واجتماعية.
تعود جذور هذا الاتجاه إلى أفكار علماء الاجتماع الأوائل مثل إميل دوركهايم (Émile Durkheim) الذي رأى في مشاعر القداسة والخشوع الجماعي أثناء الطقوس الدينية أساسًا لتماسك المجتمع، وإلى ماكس فيبر (Max Weber) الذي تناول البعد القيمي والعاطفي في الفعل الاجتماعي. إلا أنّ النظرية بصيغتها الحديثة بدأت تتبلور في نهاية القرن العشرين، مع أبحاث أرلي راسل هوشكايلد (Arlie R. Hochschild) في كتابها “The Managed Heart” الصادر عام 1983، حيث طرحت مفهوم “إدارة العواطف” في المؤسسات والعمل، مبيّنة كيف يُعاد تشكيل المشاعر لتخدم أغراضًا اقتصادية واجتماعية.
	وفي العقود التالية، وسّع علماء مثل جوناثان تيرنر (Jonathan Turner) وراندال كولينز (Randall Collins) وديبورا غولد (Deborah Gould) نطاق النظرية لتشمل فهم المشاعر الجمعية في الحركات الاجتماعية، والممارسات الدينية، والفضاءات الرقمية. وبهذا تحوّلت العاطفة من كونها “حالة نفسية” إلى “بنية اجتماعية” تُنتج وتُدار وتُستثمر داخل المجتمع.
	ثانيًا: المفاهيم الأساسية في نظرية العواطف الاجتماعية
ترتكز هذه النظرية على عدد من المفاهيم المحورية:
ترتكز هذه النظرية على عدد من المفاهيم المحورية:
	البنية العاطفية (Emotional Structure): تشير إلى النمط الجمعي للعواطف السائدة في مجتمعٍ ما، كالغضب الجماعي أو الفخر الوطني أو الخوف السياسي، وهي التي تحدد اتجاهات التفاعل الاجتماعي والسياسي.
	إدارة العاطفة (Emotion Management): تمثّل عملية توجيه المشاعر وتنظيمها بما يتناسب مع القيم الثقافية أو الأهداف المؤسسية أو الحملات الإعلامية. وتُمارس هذه الإدارة على المستويين الفردي والجمعي.
	العدوى العاطفية (Emotional Contagion): تُعبّر عن سرعة انتقال المشاعر بين الأفراد عبر التفاعل المباشر أو الوسائط الرقمية، كما في حالات الغضب الشعبي أو الحزن الجماعي عقب الأحداث الكبرى.
	العمل العاطفي (Emotional Labor): مفهوم طوّرته هوشكايلد، ويشير إلى الجهد الذي يبذله الفرد في التعبير عن مشاعر مطلوبة اجتماعيًا، حتى إن لم تكن صادقة داخليًا، كابتسامة موظف الاستقبال أو حماس الناشط في حملة جماهيرية.
	ثالثًا: تطبيقات النظرية في الواقع المعاصر
1. العواطف في الحملات السياسية
في الانتخابات الأمريكية عام 2008، اعتمدت حملة الرئيس باراك أوباما على إثارة مشاعر الأمل والتغيير بدلًا من الخطاب البرنامجي الجاف. أظهرت الدراسات (Pew Research, 2009) أن الخطابات ذات الشحنة الوجدانية العالية كانت أكثر قدرة على تعبئة الناخبين، خصوصًا فئة الشباب. ومنذ ذلك الحين، بات “تسويق العاطفة” عنصرًا رئيسيًا في الحملات السياسية عبر العالم.
1. العواطف في الحملات السياسية
في الانتخابات الأمريكية عام 2008، اعتمدت حملة الرئيس باراك أوباما على إثارة مشاعر الأمل والتغيير بدلًا من الخطاب البرنامجي الجاف. أظهرت الدراسات (Pew Research, 2009) أن الخطابات ذات الشحنة الوجدانية العالية كانت أكثر قدرة على تعبئة الناخبين، خصوصًا فئة الشباب. ومنذ ذلك الحين، بات “تسويق العاطفة” عنصرًا رئيسيًا في الحملات السياسية عبر العالم.
	2. العواطف في الحركات الاجتماعية
خلال ثورات “الربيع العربي” (2011)، لعبت العواطف الجمعية - الغضب، الكرامة، الأمل - دورًا مركزيًا في تحريك الجماهير. فقد أظهرت بحوث جامعة أكسفورد (2013) أن استخدام العبارات العاطفية على تويتر وفيسبوك (مثل “كرامة”، “حرية”، “أمل”) كان مؤشّرًا لتصاعد المظاهرات الميدانية. هكذا تجسدت النظرية عمليًا في فهم التعبئة الشعبية بوصفها فعلًا وجدانيًا بقدر ما هو عقلاني.
خلال ثورات “الربيع العربي” (2011)، لعبت العواطف الجمعية - الغضب، الكرامة، الأمل - دورًا مركزيًا في تحريك الجماهير. فقد أظهرت بحوث جامعة أكسفورد (2013) أن استخدام العبارات العاطفية على تويتر وفيسبوك (مثل “كرامة”، “حرية”، “أمل”) كان مؤشّرًا لتصاعد المظاهرات الميدانية. هكذا تجسدت النظرية عمليًا في فهم التعبئة الشعبية بوصفها فعلًا وجدانيًا بقدر ما هو عقلاني.
	3. العواطف في المجال الديني
في الفضاء الديني، تُستخدم العاطفة لتكوين الانتماء وبناء الهوية الجمعية. فالممارسات الشعائرية والإنشاد الجماعي والدعاء المشترك تولّد ما يسميه دوركهايم “الاندماج الجمعي” (Collective Effervescence). وفي العالم الرقمي، نلحظ حضورًا قويًا للرموز والمقاطع الوجدانية التي تُعيد تشكيل التدين في إطار تفاعلي ومؤثر عاطفيًا.
في الفضاء الديني، تُستخدم العاطفة لتكوين الانتماء وبناء الهوية الجمعية. فالممارسات الشعائرية والإنشاد الجماعي والدعاء المشترك تولّد ما يسميه دوركهايم “الاندماج الجمعي” (Collective Effervescence). وفي العالم الرقمي، نلحظ حضورًا قويًا للرموز والمقاطع الوجدانية التي تُعيد تشكيل التدين في إطار تفاعلي ومؤثر عاطفيًا.
	4. العواطف في المنصّات الرقمية
مع انتشار وسائل التواصل، ظهرت ظواهر جديدة مثل “ثقافة الترند” و”التحفيز العاطفي”، حيث تُستثمر المشاعر - سواء إيجابية أو سلبية - لتحقيق الانتشار. فالمنصّات تميل إلى ترويج المحتوى الذي يثير الانفعال، مما جعل العاطفة موردًا رقميًا ذا قيمة. وقد أشار تقرير معهد “MIT Technology Review” عام 2020 إلى أن التغريدات التي تحتوي على انفعال غاضب تُعاد مشاركتها بنسبة أعلى بـ 70% من غيرها.
مع انتشار وسائل التواصل، ظهرت ظواهر جديدة مثل “ثقافة الترند” و”التحفيز العاطفي”، حيث تُستثمر المشاعر - سواء إيجابية أو سلبية - لتحقيق الانتشار. فالمنصّات تميل إلى ترويج المحتوى الذي يثير الانفعال، مما جعل العاطفة موردًا رقميًا ذا قيمة. وقد أشار تقرير معهد “MIT Technology Review” عام 2020 إلى أن التغريدات التي تحتوي على انفعال غاضب تُعاد مشاركتها بنسبة أعلى بـ 70% من غيرها.
	رابعًا: العلاقة بين العاطفة والبنية الاجتماعية
تُبرز نظرية العواطف الاجتماعية أن المشاعر تُفهم ضمن السياق الثقافي والاقتصادي والسياسي. فالمجتمعات السلطوية تميل إلى قمع العواطف الجماعية أو توجيهها نحو رموز محددة، بينما تتيح المجتمعات الديمقراطية مساحة أوسع للتعبير العاطفي وتنوّع الانفعالات.
كما أنّ العاطفة تُستخدم أحيانًا كأداة للهيمنة، حين تُصاغ الخطابات الوطنية أو الدينية بلغة وجدانية تخلق “توحّدًا مصطنعًا” يخفي التفاوت الطبقي أو السياسي.
وهنا تظهر أهمية الوعي النقدي في تحليل “الاقتصاد العاطفي” الذي يدير الرأي العام.
تُبرز نظرية العواطف الاجتماعية أن المشاعر تُفهم ضمن السياق الثقافي والاقتصادي والسياسي. فالمجتمعات السلطوية تميل إلى قمع العواطف الجماعية أو توجيهها نحو رموز محددة، بينما تتيح المجتمعات الديمقراطية مساحة أوسع للتعبير العاطفي وتنوّع الانفعالات.
كما أنّ العاطفة تُستخدم أحيانًا كأداة للهيمنة، حين تُصاغ الخطابات الوطنية أو الدينية بلغة وجدانية تخلق “توحّدًا مصطنعًا” يخفي التفاوت الطبقي أو السياسي.
وهنا تظهر أهمية الوعي النقدي في تحليل “الاقتصاد العاطفي” الذي يدير الرأي العام.
	خامسًا: العواطف والنهوض الحضاري
1. العاطفة كمحرّك للوعي الحضاري
لا يمكن لأي مشروع نهضوي أن ينهض بالعقل وحده دون الوجدان. فالعاطفة تمدّ الإنسان بالطاقة التي تدفعه للفعل. وقد تجلّى ذلك في التجارب الحضارية الكبرى؛ فنهضة أوروبا في القرن الخامس عشر ارتبطت بانفعالات جماعية قوية: الشغف بالاكتشاف، الإعجاب بالإنجاز، والغيرة من التأخر. وكذلك في التاريخ الإسلامي، مثّلت عاطفة الإيمان والرحمة والغيرة على الحق وقودًا حضاريًا للفتوحات العلمية والروحية.
1. العاطفة كمحرّك للوعي الحضاري
لا يمكن لأي مشروع نهضوي أن ينهض بالعقل وحده دون الوجدان. فالعاطفة تمدّ الإنسان بالطاقة التي تدفعه للفعل. وقد تجلّى ذلك في التجارب الحضارية الكبرى؛ فنهضة أوروبا في القرن الخامس عشر ارتبطت بانفعالات جماعية قوية: الشغف بالاكتشاف، الإعجاب بالإنجاز، والغيرة من التأخر. وكذلك في التاريخ الإسلامي، مثّلت عاطفة الإيمان والرحمة والغيرة على الحق وقودًا حضاريًا للفتوحات العلمية والروحية.
	2. إدارة العاطفة في الخطاب النهضوي
النهوض الحضاري يحتاج إلى “هندسة وجدانية” تُعيد تشكيل الحسّ الجمعي نحو قيم الإتقان، والكرامة، والمسؤولية. فالمجتمعات التي تُهمل التربية الوجدانية تتحول إلى كيانات ميكانيكية عاجزة عن التضحية أو الإبداع. وهنا تتقاطع النظرية مع مقاصد التربية الإسلامية التي تُوازن بين العقل والعاطفة والسلوك.
النهوض الحضاري يحتاج إلى “هندسة وجدانية” تُعيد تشكيل الحسّ الجمعي نحو قيم الإتقان، والكرامة، والمسؤولية. فالمجتمعات التي تُهمل التربية الوجدانية تتحول إلى كيانات ميكانيكية عاجزة عن التضحية أو الإبداع. وهنا تتقاطع النظرية مع مقاصد التربية الإسلامية التي تُوازن بين العقل والعاطفة والسلوك.
	3. العاطفة في مشاريع الإصلاح
في تجارب الإصلاح الحديثة، يُلاحظ أن الحركات التي نجحت في تعبئة الناس حول قيم الحرية أو الكرامة استطاعت أن توظّف العاطفة بذكاء ضمن رؤية عقلانية. فمشروع غاندي في الهند اعتمد على إثارة التعاطف والضمير الأخلاقي أكثر من القوة المادية، بينما فشلت حركات أخرى لأنها استنزفت مشاعر الغضب دون تحويلها إلى وعي منظّم.
في تجارب الإصلاح الحديثة، يُلاحظ أن الحركات التي نجحت في تعبئة الناس حول قيم الحرية أو الكرامة استطاعت أن توظّف العاطفة بذكاء ضمن رؤية عقلانية. فمشروع غاندي في الهند اعتمد على إثارة التعاطف والضمير الأخلاقي أكثر من القوة المادية، بينما فشلت حركات أخرى لأنها استنزفت مشاعر الغضب دون تحويلها إلى وعي منظّم.
	4. البعد الرقمي في النهوض الحضاري
في زمن الإعلام الرقمي، أصبحت إدارة العاطفة جزءًا من معركة الوعي الحضاري. فصناعة الوعي تقوم على “تأطير العاطفة” (Emotional Framing)؛ أي توجيه المشاعر نحو أهداف بنّاءة. ولذلك تمثل المنصات الرقمية اليوم ميدانًا حضاريًا لصياغة القيم والانتماءات، ويمكن أن تتحول إلى رافعة نهضوية إذا أحسن استخدامها في بث الأمل، وتعزيز الانتماء، وتحفيز المسؤولية الجماعية.
في زمن الإعلام الرقمي، أصبحت إدارة العاطفة جزءًا من معركة الوعي الحضاري. فصناعة الوعي تقوم على “تأطير العاطفة” (Emotional Framing)؛ أي توجيه المشاعر نحو أهداف بنّاءة. ولذلك تمثل المنصات الرقمية اليوم ميدانًا حضاريًا لصياغة القيم والانتماءات، ويمكن أن تتحول إلى رافعة نهضوية إذا أحسن استخدامها في بث الأمل، وتعزيز الانتماء، وتحفيز المسؤولية الجماعية.
	سادسًا: نقد النظرية وحدودها
رغم أهميتها، تُواجه نظرية العواطف الاجتماعية تحديات بحثية وفكرية:
رغم أهميتها، تُواجه نظرية العواطف الاجتماعية تحديات بحثية وفكرية:
	- تضخيم البعد العاطفي على حساب التحليل البنيوي الاقتصادي والسياسي.
	- صعوبة القياس الكمي للعواطف في الدراسات الميدانية.
	- الاستغلال التجاري والسياسي للعواطف، ما يجعلها أداة للهيمنة أكثر من كونها وسيلة للتحرّر.
	ومع ذلك، تظل النظرية إطارًا ضروريًا لفهم كيف يُدار الإنسان المعاصر عبر الانفعال، وكيف يمكن تحويل هذا الانفعال إلى طاقة حضارية واعية.
	مشروع عقلٍ وقلبٍ 
تُعيد نظرية العواطف الاجتماعية التوازن إلى الفكر الاجتماعي الحديث عبر إبرازها دور الوجدان في بناء المجتمعات وتحريك التاريخ. فهي تذكّرنا بأن النهضة مشروع عقلٍ وقلبٍ معًا، وأن المجتمعات التي تُهمل تنمية الحسّ الجمعي والعاطفة الأخلاقية تفقد روحها المحرِّكة.
وفي عالمٍ تُغذّيه الخوارزميات وتتنازعه الخطابات الانفعالية، يصبح الوعي بالعاطفة وتوجيهها نحو الخير والحق والجمال أحد مفاتيح النهوض الحضاري المستدام.
                تُعيد نظرية العواطف الاجتماعية التوازن إلى الفكر الاجتماعي الحديث عبر إبرازها دور الوجدان في بناء المجتمعات وتحريك التاريخ. فهي تذكّرنا بأن النهضة مشروع عقلٍ وقلبٍ معًا، وأن المجتمعات التي تُهمل تنمية الحسّ الجمعي والعاطفة الأخلاقية تفقد روحها المحرِّكة.
وفي عالمٍ تُغذّيه الخوارزميات وتتنازعه الخطابات الانفعالية، يصبح الوعي بالعاطفة وتوجيهها نحو الخير والحق والجمال أحد مفاتيح النهوض الحضاري المستدام.
 
     
     
     
    