من الحيرة إلى الفاعلية: 4 محاور لبناء الذات

من الحيرة إلى الفاعلية: 4 محاور لبناء الذات
يواجه الشباب العربي اليوم عدداً كبيراً من التحديات والصعوبات المتنوعة التي لا تترك باباً من أبواب العمل والعلم الإنساني إلا وتَحْضُرُ فيه، فأبواب التعلُّم، والمال، والسياسة، والتديُّن، والاجتماع، والتربية، والحروب، وغيرها من الأبواب، يقف كثيرٌ من الشباب حائراً متلفتاً لا يدري: أيَمضي للأمام كعادته في حياته التي ألِفَها، أم يعود للخلف ويعيد التفكير؟ أيشغل كل وقته في هدف محدَّد أم يُشعِّب فكره وقوته هنا وهناك؟ أيطمح ويغامر بحثاً عن فرص جديدة، أم يُطامِن من طموحه ويكتفي بالفرص القريبة المتواضعة في مجتمعه؟ أيذهب يمنةً أم يسرةً؟ أينظر للأعلى أم يُبصر الأسفل؟
ولا شكَّ أن مشاكل الشباب كثيرة لا تنتهي، خاصةً مع هذا الزمن الذي لا يفتأ يُجدِّد الأشياء ويبتكر ويخترع ويُهلك القديم كأن لم يكن، مُحدِثاً قلقاً مخيفاً بشأن المألوف من كل شيء. ولكن الحقيقة كذلك أن رحلة الحياة منذ كانت هي تحديات وابتلاءات وصعوبات لا تنتهي، لذلك كانت الحاجة مستمرة إلى تلك الذات المتسلِّحة بالإرادة العازمة على مواجهة الحياة بما لها وما عليها، بحُلوِها ومُرِّها، مع ما لهذه الذات كذلك من قيم الإحسان والإبداع التي تُضفي على كل إنجاز صِفَتَيْ الصلاح والجِّدَّة.
وأملاً في تجديد مثل هذه الإرادة المسؤولة القائمة على الإحسان والإبداع، نضع بين أيدي الشباب عدداً من النصائح التي من الجيِّد أن يستصحبها في رحلة الحياة.
 1 - إصلاح الوعي والفكر
فهم الواقع بعمق ودون انفعال؛ كلما استطاع الفرد أن يُكوِّن صورة صحيحة عن واقعه الذي يعيش فيه، امتلك وعياً أفضل بالمعرفة والحقائق، ما يعني أنه لن يخضع للتزييف والكذب لأي جهة كانت، فتصبح شخصيته مستعصية على التلاعب. وهذا يُهيِّئه لاتخاذ قرارات واقعية وصحيحة، بعيداً عن المبالغات والتكهُّنات الخاطئة، والخوف غير المبرَّر من الواقع السيء، والتفاؤل المبالَغ فيه من الواقع المشرق.
تعلَّم التفكير النقدي؛ لا بُدَّ لعقل الفرد أن يكون حراً لا عبداً، ولن يكون حراً إلا إذا قرأ، وفكَّر، وتأمَّل في هذه الحياة وأحداثها بروية وعين ناقدة، فما من حرية حقيقية للذات دون عقل حرٍ يمتلك حُكمَه الخاص وقَرَارَه الذاتي.
كَوِّن رؤية ذاتية للحياة ولا تكُن إمَّعة؛ إيَّاك أيها الفرد أن تغفل عن تحديد الهدف الخاص بك وعن بناء مشروع يخصُّك، حتى لو كان صغيراً. وعليك أن تجعل هذا المشروع يخدم أهدافك وقيمك الأساسية ورسالتك في الحياة، فالفرد الذي لا يملك مشروعاً سوف يكون وقوداً لمشاريع غيره.
انفتح على الأفكار والعالم؛ لقد جعل الله هذا العالم على هيئة من التنوُّع والاختلاف في تجاربه ومشاربه، ولا بُدَّ للفرد لأن يجد من بين ملايين تجارب الناجحين والمفلحين والمبدعين الكثير الكثير من وسائل بناء الذات الفاعلة والسعيدة. فإيَّاك أن تنطوي على وجهات نظر ضيقة في هذه الحياة، فتُضَيِّع آلاف الفرص التي كانت على مرمى حجر من استفادتك منها.
2 - تنشيط الفاعلية والعمل
عليك بالممكن والمتاح، ولا تنتظر الظروف المناسبة بل اصنعها؛ لقد أرانا التاريخ وبصَّرنا الواقع بأنَّ الذين نجحوا وقاموا وأسسوا المشاريع الكبيرة التي أصبحت شركات عابرة للقارات أو حكومات تحكم العالم، لم تُولَد كبيرة، ولم تخرج من العدم إلى ما هي عليه من الضخامة والسيطرة والتحكم فجأةً. لذلك، طوِّر نفسك من خلال مشروعك الصغير، وغذِّه بالمهارات والمعارف الجديدة وخاصةً الرقمية، ووسع شبكات علاقاتك رويداً رويداً، وفي المحصِّلة، سوف تحقِّق أهدافك كما فعل الآخرين، أو على الأقل حتَّى يناسب طموحك.
كَوِّن من حولك دائرة من الأفراد الإيجابيين؛ عليك بإنشاء علاقات إيجابية من الأصدقاء والزملاء، فهذه الروح الإيجابية رافعة جبَّارة للمعنويات، ثُم للأهداف والمشاريع. واهرب من أهل التحسُّر والشكوى الذين يجعلون المشاكل العادية سدوداً وجدراناً لا يمكن تجاوزها.
اجعل من التحديات فرصاً؛ لو توقَّفت ساعة وتأمَّلت في حالك ووضعك، ربما تجد نفسك عالقاً في بطالة وضيق حال، وهذا شأن غالب الشَّباب اليوم. ولكن قلَّة منهم من ينظر بعين المبدع للتَّحديات والصُّعوبات ليتَّخذ منها جسراً للعبور. وهل صُنِع التَّاريخ إلا من الأزمات والصُّعوبات، والَّتي تحوَّلت بأيدي أهل الهِمَم إلى بدايات للنَّجاح.
كن مبادراً؛ يزخر المجتمع بالكثير من الفعاليات المتنوعة من صناعية، وثقافية، وتعليمية، وبيئة، وغيرها. وكلما كانت لك مشاركة في تحسين هذه المساحات في بلدك، انفتح لك ولغيرك سبيل جديد للعمل والإنجاز. إنَّ المبادرات والمشاركات إحدى طرق بناء العلاقات المجتمعية الصحية التي تُنشئ الثقة بين الناس، والثقة رأسمالٌ مهمٌ جداً للمشاريع الناجحة.
3 - تجديد المعرفة والمهارة
تعلَّم مهارة يحتاجها العصر؛ لا بُدَّ للفرد أن يعيش وقته، وحاجاته، ومهاراته التي تُسيِّره في وقته. أما الانشغال بالمعارف الماضية التي لا تُغني ولا تُسمِن من جوع، فليس إلَّا تأكيداً على التخلُّف والضعف. ومهارات العصر ليست بالضرورة عملاً جديداً بقدر ما تكون وسائل جديدة، فالتجارة عمل قديم قِدَم التاريخ، ولكن وسائلها تغيَّرت، وأصبحت التجارة الإلكترونية أحد أوسع أبواب الرزق اليوم، وإهمالها يدل على الكسل لا على التمسُّك بالتقاليد كما يحسب بعض الناس.
رَكِّز على التعلُّم الذاتي المستمر؛ إنَّ الفرد الذي يسعى حقاً إلى النجاح لا بُدَّ أن يعلم أن تطوير معارفه الذاتية ومهاراته أصبح شرطاً للاستمرار في الوظيفة أو أي عمل، كما هو شرطٌ في إبداع أعمال جديدة بأهداف جديدة. لذلك، من الخطر أن يركن الفرد إلى ما عنده من معارف وخبرات في عالمٍ تُحسبُ زيادةُ معارفِهِ بالثواني. لقد أضحى التطوير الذاتي شرطاً للاستمرار.
حَصِّل العلوم المتنوعة؛ يحتاج الفرد الذي يريد أن يشارك بشكل فاعلٍ في النهوض والإصلاح إلى أن يرفع سويَّتَه العلمية، محصِّلاً ألواناً من العلوم البَحتَة، كجزءٍ متخصص مثل أن يكون أستاذاً للرياضيات أو مهندساً وغير ذلك، إلى جانب تحصيل قسطٍ من العلوم الإنسانية التي تضبط بوصلة العمل وتؤطرها وتوجِّهها ضمن رؤية متكاملة تجمع العمل والقيم، وتغمر الفرد في دوائر الاجتماع والمشاركة والإبداع المسؤول.
لا بُدَّ من التواجد في أرض الثورة الرقمية؛ يُخطئ من يظن نفسه قادراً على الانعزال والعمل بعيداً عن مؤثرات الثورة الرقمية الحديثة. فالحال أنَّه إن لم تكن منخرطاً مستفيداً منها، فسوف تكون عنصراً مُنفَعِلاً لغيرك بالكامل، مستغلاً لوجودك ومهاراتك في خدمته هو. لذلك، من البؤس والغباء ألَّا يستفيد الفرد من الثورة الرقمية وما تقدمه في كل حقول العمل والمعرفة والإبداع.
4 - تثمين دور القيم
الإيمان مصدر إمداد لا يَنفَد؛ بقدر ما يتمتَّع الفرد بالموارد، والمهارات، والخبرات، والفرص، إلا أنَّ هناك عنصراً ومورِداً لا بُدَّ من وجوده لضمان القوة المعتبرة، ألا وهو "الإيمان". إن الإيمان قوة مستقلة بذاتها، تمنح الفرد الإرادة الإيجابية على العمل، والقوة الثابتة على الصبر ، فضلاً عن قدرة الإيمان على الاستفادة من كلِّ القوى والموارد الَّتي يتعامل معها الفرد بطريقة إنسانية تحفظ الكرامة وتثمرها.
حافظ على توازنك النفسي؛ من العلل التي تواجه الفرد هي انكساره أمام المصائب والمبالغة في أثرها في واقعه ومستقبله. ولكن الفرد الواعي هو الذي يُقوِّم الأشياء بقيمتها الحقيقية، فلا يبالغ بالخوف والجزع منتهياً إلى اليأس، ولا يبالغ في اللامبالاة بالأحداث والتَّحدِّيات منتهياً إلى المجازفة غير المحسوبة. لذلك، لا بُدَّ له من التوازن في مشاعره، سواءً منها الهجومية والدفاعية.
الزمن جنرال؛ ما من فردٍ يُهمل قيمة الوقت إلا وانتهى إلى الفشل في أعماله. إنَّ الوقتَ أحدُ المواردِ الموجودةِ بكثرة لدى الطامحين الأسوياء، العارفين بقيمته، ومع ذلك، هو أحد الموارد النادرة القليلة لدى المهملين له.
كُن قدوةً في أخلاقك؛ بقدر تمسُّك المجتمعات وتواصلها بقيم وأخلاق صالحةٍ وصادقةٍ ينهض المجتمع، وبقدر إهمال الأخلاق يتفكك وينهار. ومن هنا، كان دور الفرد صاحب القيم فاعلاً في تماسك المجتمع ونهوضه. ويبدأ هذا الأثر الأخلاقي للفرد من أصغر الدوائر الفاعلة لأكبرها، مروراً بالأسرة، والمدرسة، والجامعة، والعمل، والمجتمع المدني، والوطن، والأمة. وكلما صلحت أخلاق الفرد أصبح مثالاً يُحتذى، ينشر الصلاح والالتزام من جهة، ويوسِّع دوائر النجاح والإبداع من جهة أخرى. فالأخلاق والقيم الصالحة هي أبواب للعمل والتعارف الجيِّد الذي يُنشئ شبكات تواصل وعمل وتعارف جديدة، لها من الآثار الإيجابية الكثير، سواءً في التعارف المجتمعي أو التواصل العملي والتجاري.
خاتمة: المفتاح بيدك
أيها الشاب العربي، إن هذه المحاور الأربعة: الوعي، والفاعلية، والمهارة، والقيم، ليست مجرد نصائح متفرقة، بل هي عُدَّة متكاملة لبناء "الذات المتسلِّحة بالإرادة" التي بدأنا بها حديثنا.
فلا يغني الوعي بلا عمل، ولا ينجح العمل بلا مهارة، ولا يبارك المسعى كلَّه ويثبِّته إلا سياجٌ من القيم الراسخة والإيمان العميق.
إن التحديات، مهما عظُمَت، تظلُّ خارجاً عنك، أما القوة الحقيقية للتغيير؛ فتكمن داخلك. لا تنتظر الظروف المثالية لتتحرك، بل تحرَّك لتصنع ظروفك. إِنَّ قرار "تغيير حالك بيدك" هو الخطوة الأولى نحو صناعة واقعٍ يليق بطموحك. ابدأ الآن، فالمستقبل يُبنى بالجهد الواعي، لا بالتمنِّي الخامل.