الفجوة بين الإسلام اليوم والفاعلية الحضارية

المسيرة نحو النهضة 
دكتور، لو بدأنا من سؤالك الشخصي الكبير: كيف تشكّلت رحلتك الفكرية نحو مشروع النهضة؟ ما الذي قادك، وأيّ منعطفات كبرى صنعت هذه المسيرة؟
دعني أقول لك: كل إنسان يحمل قصة، لكن قصتي مع الفكر والنهضة بدأت من شعور مبكر بالاغتراب عن واقع الأمة. وُلدت في خمسينيات القرن الماضي، في زمن كان المشهد العربي محتدمًا: قومية عربية يقودها جمال عبد الناصر، أحلام بالوحدة، خطاب متدفق عن التحرر والاستقلال.
لكن هذا المشهد البراق لم يصمد طويلًا. جاءت نكسة 1967 فهزّت الوجدان العربي كله. كان وقع الهزيمة على جيلنا مدمّرًا: جيل نشأ على نشيد "الوحدة العربية"، فإذا به يستيقظ على انكسار مرير أمام إسرائيل. منذ تلك اللحظة، بدأ السؤال يتغلغل: لماذا هُزمنا؟ أين مكمن الخلل؟
1. البذور الأولى: مكتبة صغيرة
أذكر أن البداية الحقيقية كانت في مكتبة صغيرة تمتلكها أختي. كنت طفلًا لا يتجاوز العاشرة، لكنني وقعت في حب القراءة. صرت أجلس الساعات بين الكتب، أقرأ كل ما يقع في يدي: قصص، روايات، كتب مدرسية، وحتى كتب كبار لا أفهمها بالكامل.
هذه العادة – عادة القراءة – صنعت داخلي شخصية متسائلة. كنت أرى أن الكتاب يمنحني عوالم أكبر من الحيّ الذي أعيش فيه. وبالتدريج، بدأت أعي أن الأمة تعيش أزمة أكبر من مجرد هزيمة عسكرية.
2. سبعينيات مصر: الحراك الإسلامي
مع دخولي الجامعة في مصر عام 1973، كنت على تماس مباشر مع صعود الحركات الإسلامية. كان الحرم الجامعي يغلي: مظاهرات، نقاشات فكرية، صدامات مع اليسار والقوميين. هناك، بدأ صوت جديد يرتفع: "الإسلام هو الحل".
هذا الشعار هزّ وجدان الشباب. بدا وكأنه يقدّم الجواب البسيط لكل الأسئلة: لماذا هُزمنا؟ لأننا ابتعدنا عن الإسلام. كيف ننهض؟ بالعودة إلى الإسلام. كنت واحدًا من آلاف الشباب الذين انجذبوا لهذا الخطاب، خصوصًا مع بروز شخصيات فكرية قوية كالإمام الغزالي والقرضاوي وسعيد حوّى.
لكنني كنت متسائلًا بطبيعتي. قلت في نفسي: "حسنًا، لنفترض أننا عدنا إلى الإسلام كما نفهمه اليوم، هل هذا وحده يكفي لننهض؟ هل يكفي أن نصلي ونصوم ونرفع الشعارات حتى نصبح قوة حضارية؟" هذه الأسئلة لم تتركني.
3. التجربة البريطانية: صدمة الغربة
انتقلت بعد ذلك إلى بريطانيا لاستكمال الدراسة والعمل. وهناك كانت الصدمة الثانية. رأيت مجتمعات متقدمة علميًا وصناعيًا واقتصاديًا، لا ترفع شعارات دينية، لكنها تحقق العدل في مؤسساتها، وتحترم الإنسان كإنسان، وتستثمر العلم والوقت والموارد.
كنت أقول لنفسي: "كيف لأمة بلا قرآن أن تبني هذه الحضارة، بينما نحن، أصحاب النص السماوي الخالد، عاجزون عن إدارة مستشفى أو جامعة بجدية؟" هذه المقارنة دفعتني إلى إعادة التفكير في المسألة برمّتها.
أدركت أن الخلل ليس في النصوص، بل فينا نحن. مشكلتنا ليست في غياب الإسلام، بل في طريقة فهمه وتوظيفه. وهنا بدأت رحلة البحث المنهجي: درست الإدارة، التخطيط الاستراتيجي، الفلسفة، علم الاجتماع، الاقتصاد. كنت أبحث عن "الخيط المفقود" بين قيمنا الكبرى وواقعنا المتخلف.
4. ربع قرن من القراءة
يمكنني القول إنني أمضيت ربع قرن أقرأ بلا توقف. كنت أقرأ 5 ساعات يوميًا على الأقل، في الفلسفة، التاريخ، الفكر السياسي، علم الاجتماع، تجارب الأمم. هذه القراءات لم تكن ترفًا، بل محاولة لفك اللغز: لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
ومن رحم هذا السؤال، بدأت تتشكل لديّ القناعة بأن النهضة ليست مجرد عاطفة دينية، بل علم وفن. لا تنهض الأمم بالدعاء وحده، بل بالتخطيط والإدارة والعمل. كما يقول ابن خلدون: "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالعمارة، والعمارة بالعدل." هذا الترابط البنيوي بين العدل والعلم والعمل أصبح هو مفتاح فهمي.
5. صدام مع الحركات الإسلامية
هل وجدت تجاوبًا من الحركات الإسلامية مع هذه الرؤية الجديدة؟
بصراحة، لم يكن الأمر سهلًا. كثير من الحركات الإسلامية كانت أسيرة للشعار، تعتقد أن مجرد رفع راية الإسلام كافٍ لإقامة الدولة. لكنني رأيت أن الشعارات وحدها لا تصنع نهضة. كنت أقول لهم: "ماذا لو استلمتم الحكم غدًا؟ هل لديكم رؤية لإدارة الاقتصاد؟ هل عندكم خطط للتعليم؟ هل تفهمون العلاقات الدولية؟"
كانت الإجابات غالبًا عاطفية: "يكفينا القرآن والسنة." هنا اصطدمت بقناعة أن الخلل أعمق: نحن نملك النصوص، لكننا نفتقر إلى الأدوات.
هذا جعلني أنسحب تدريجيًا من الخطاب الحركي المباشر، لأتفرغ لبناء مشروع فكري استراتيجي يتجاوز الشعارات إلى بناء رؤية عملية.
6. بلورة مشروع النهضة
مع تراكم الخبرة والقراءة، بدأت أكتب وأدرّس. صدرت كتبي الأولى، مثل قوانين النهضة، لأضع بين يدي الجيل الجديد قواعد أساسية لفهم التغيير. حاولت أن أختصر لهم 25 عامًا من القراءة في 200 صفحة، بلغة مبسطة، قابلة للتطبيق.
ثم جاءت بقية السلسلة: الذاكرة التاريخية، سقوط الحضارات، فلسفة التاريخ، المناظير الثمانية. كل كتاب كان خطوة لبناء وعي جديد. وكنت أقدّم دورات تدريبية لآلاف الشباب، أحاول أن أفتح لهم آفاق التفكير النقدي، وأن أربط بين القيم القرآنية والواقع العملي.
7. دروس من التجارب العالمية
خلال هذه المسيرة، أدركت أن الأمم الأخرى مرت بأزمات شبيهة، ثم نهضت.
أوروبا في العصور الوسطى: كانت غارقة في صراعات دينية وحروب، ثم جاء عصر النهضة حين أعادت النظر في علاقتها بالعلم والإنسان.
اليابان في القرن 19: بعد عزلة طويلة، انفتحت على العالم، وتعلمت من الغرب، ثم أعادت إنتاج نفسها في إطار هويتها الخاصة.
كوريا الجنوبية: قبل 60 عامًا كانت من أفقر دول العالم، واليوم تنافس في التكنولوجيا. لماذا؟ لأنها استثمرت في التعليم والعمل والإدارة.
هذه النماذج جعلتني أؤمن أن النهضة ليست حكرًا على أمة معينة، بل هي قانون: من أخذ بالأسباب نهض، ومن أهملها سقط.
8. معادلة النهضة
إذن، بعد كل هذا، كيف تصوغ معادلة النهضة؟
أستطيع أن ألخصها في جملة واحدة:
النهضة = قيم + علم + عمل + مؤسسات + عدل.
قيم: بدون قيم تضبط البوصلة، يتحول العلم إلى وحش.
علم: بدون معرفة حديثة، تبقى القيم مجرد عاطفة.
عمل: بدون جهد وإنتاج، يبقى العلم في الكتب.
مؤسسات: بدون مؤسسات، يظل العمل فرديًا هشًّا.
عدل: بدون عدل، ينهار كل شيء مهما بدا قويًا.
9. الرحلة من الفرد إلى الأمة
هل النهضة مسؤولية النخب فقط، أم مشروع الأمة كلها؟
النهضة تبدأ بالفرد، لكنها لا تكتمل إلا بالمجتمع. الفرد يقرأ، يتعلم، يغيّر نفسه. لكن إذا بقيت التغيرات فردية، فلن تُحدث فرقًا كبيرًا. المطلوب أن تتحول إلى وعي جماعي، ثم إلى مشروع وطني، ثم إلى رؤية حضارية.
لذلك أقول للشباب: لا تستهينوا بتغيير أنفسكم، لكن لا تكتفوا بذلك. ابحثوا عن العمل الجماعي، عن بناء المؤسسات، عن المساهمة في الإصلاح العام.
10. الدرس الأهم
بعد هذه الرحلة الطويلة، ما هو الدرس الأهم الذي خرجت به؟
الدرس الأهم أن النهضة ليست عاطفة، بل علم. ليست حلمًا، بل مشروع. ليست مسؤولية فرد واحد، بل مسؤولية أمة.
وأقولها بصدق: لو عدنا إلى القرآن بروح جديدة، نقرأه كمشروع حضاري لا ككتاب شعائر، ولو أخذنا بأسباب العلم والعمل، فإن هذه الأمة قادرة أن تنهض من جديد. نحن لسنا أقل من اليابان أو كوريا أو أي أمة أخرى. الفرق أن الآخرين أخذوا بالأسباب، ونحن ما زلنا نتغنى بالأمجاد الماضية دون أن نصنع أمجاد الحاضر.

عمق الخلل الحضاري للمسلمين
دكتور، إذا أردنا أن ندخل في قلب الموضوع مباشرة: ما هو الخلل الجوهري الذي يفسّر تخلف المسلمين اليوم، رغم امتلاكهم نصوصًا مقدسة، ورصيدًا حضاريًا عظيمًا؟
الجواب يحتاج إلى تفكيك. لأننا إذا نظرنا إلى السطح سنجد مظاهر التخلف في السياسة والاقتصاد والتعليم. لكن إذا تعمقنا أكثر، سنجد أن هذه المظاهر ليست إلا أعراضًا لمرض أعمق. المرض الحقيقي يكمن في المنظور الحضاري. أي في الطريقة التي ننظر بها إلى الإنسان، إلى الطبيعة، إلى العلم، إلى الوقت، إلى الدين، إلى الآخر.
لقد حاولت في كتابي المناظير الثمانية أن أضع اليد على هذا الخلل العميق. هذه المناظير تشبه "النظارات" التي يرى بها المجتمع العالم. إذا كانت العدسة مشوشة، فسيفسد النظر كله مهما حاولنا.
دعنا نتناولها واحدة واحدة.
1. منظور الإنسان
لنبدأ بالإنسان، وهو أساس كل حضارة.
صحيح. الحضارة في جوهرها مشروع إنساني. فإذا فُقدت قيمة الإنسان، ضاع كل شيء.
في مجتمعات متقدمة، الإنسان يُكرّم لذاته، وتُبنى النظم لحمايته: حرية، حقوق، مساواة. لكن في بيئاتنا، كثيرًا ما يُعامل الإنسان على أنه تابع، أو مجرد "رعية" بيد الحاكم، أو "عضو" في جماعة لا قيمة له خارجها.
عندما يُهان المواطن في مركز شرطة أو دائرة حكومية، فهذا ليس تفصيلًا صغيرًا، بل هو تعبير عن انهيار المنظور الحضاري.
عندما نُعلي قيمة النسب والقبيلة على الكفاءة والجدارة، نكون قد حكمنا على أنفسنا بالفشل.
الحضارة تبدأ من احترام الإنسان. وإذا لم نضع الإنسان في المركز، فلن تقوم لنا قائمة.
2. منظور الطبيعة
وماذا عن علاقتنا بالطبيعة؟
الطبيعة كتاب مفتوح للعلم. المجتمعات التي تعاملت مع الطبيعة كموضوع للبحث والاكتشاف، صنعت علومًا وصناعات.
نيوتن رأى سقوط تفاحة، فاكتشف قانون الجاذبية.
المسلمون الأوائل حين كانوا يقرأون الآيات: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت، وإلى السماء كيف رُفعت…}، انطلقوا لاكتشاف الطب والفلك والفيزياء.
لكننا اليوم تعاملنا مع الطبيعة كمنظر جمالي فقط: "سماء جميلة"، "بحر رائع". لم نعد نرى في الطبيعة مادة للبحث العلمي، بل للفرجة. والنتيجة أننا بقينا مستهلكين لتكنولوجيا الآخرين.
3. منظور العلم
العلم عنصر حاسم في كل نهضة. أين يكمن خللنا هنا؟
مشكلتنا أننا حولنا العلم إلى "حفظ" لا إلى "اكتشاف". العلم عندنا صار مادة للتلقين. الطالب يدرس ليجتاز الامتحان، لا ليكتشف أو يبدع.
في مدارسنا وجامعاتنا، الامتحان يقيس الذاكرة لا العقل.
البحث العلمي في كثير من الدول العربية مجرد شكليات لنيل ترقيات وظيفية، لا لإنتاج معرفة جديدة.
الجامعات العربية لا تكاد تدخل في التصنيفات العالمية، لأنها فقدت وظيفتها الحضارية.
بينما المجتمعات الناهضة جعلت من العلم أداة مركزية. انظر إلى كوريا الجنوبية: من دولة فقيرة إلى قوة صناعية، بفضل الاستثمار في التعليم والبحث العلمي.
4. منظور الوقت
لطالما كررت أن الوقت من أعظم ثرواتنا المهدورة.
نعم. الوقت في حضارتنا اليوم يُقتل، بينما في الحضارات الأخرى يُستثمر.
في الغرب أو اليابان، الثانية لها قيمة. قطار يفوت ثانية واحدة يُعتبر خللًا.
في مجتمعاتنا، الموعد "مرن"، والالتزام بالوقت أمر ثانوي.
الوقت ليس مجرد دقائق وساعات، بل هو حياة. إذا أضعنا الوقت، فقد أضعنا أعمارنا، وضيعنا فرص النهضة.
5. منظور العمل
وكيف ترى علاقتنا بالعمل؟
العمل في القرآن عبادة: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}. لكن في ثقافتنا المعاصرة، تحوّل العمل إلى مجرد وسيلة لكسب الرزق، لا قيمة له في ذاته.
نرى موظفًا يأتي متأخرًا ويغادر مبكرًا، ويعتبر ذلك "ذكاءً".
نرى ثقافة "الواسطة" تسود: الوظيفة تُعطى لمن له قرابة أو ولاء، لا لمن يستحق.
والنتيجة أن العمل فقد قيمته الحضارية. بينما الأمم التي تقدمت، جعلت من العمل معيارًا للشرف والجدارة.
6. منظور الدين
لكن أمتنا متدينة! أليس هذا مكسبًا؟
الدين طاقة حضارية كبرى، لكن المشكلة في كيفية فهمه وتوظيفه.
إذا كان الدين طاقة وحدة وعدل، فهو رافعة للنهضة.
إذا تحول إلى أداة فرقة وصراع، أصبح عائقًا.
اليوم كثير من الطاقات الدينية مهدورة في جدالات مذهبية أو طقوس شكلية لا تصنع حضارة. بينما القرآن يربط الدين بالعدل: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات… ليقوم الناس بالقسط}.
7. منظور المواطنة
وما دور المواطنة في هذا السياق؟
المواطنة تعني المساواة الكاملة. لا حضارة بلا مساواة.
عندما يشعر بعض المواطنين أنهم درجة ثانية بسبب مذهبهم أو عرقهم أو قبيلتهم، فإن المجتمع ينقسم على نفسه.
وعندما يكون القانون مطبَّقًا على الضعيف دون القوي، ينهار الشعور بالعدالة.
النهضة تحتاج إلى مجتمع متماسك، قائم على المساواة أمام القانون.
8. منظور العلاقة بالآخر
وأخيرًا: كيف ترى علاقتنا بالآخر المختلف؟
هنا أحد أعظم مواطن الخلل. نحن أمام خيارين: إما أن نغلق على أنفسنا، فنعيش في عزلة، أو نبني جسورًا للتبادل والاستفادة.
في عصور ازدهارنا، كالأندلس أو بغداد، كنا منفتحين على علوم الآخرين، نترجم ونتعلم ونضيف.
في عصور انحطاطنا، أغلقنا الأبواب، فبقينا نكرر أنفسنا حتى تجاوزنا العالم.
اليوم، بعض التيارات ترفع شعار "نحن الأفضل" لكن دون أن نقدم برهانًا عمليًا. المطلوب هو التوازن: نأخذ من الآخرين علومهم وخبراتهم، ونقدم لهم قيمنا ورؤيتنا.
9. تفاعل المناظير
هل هذه المناظير تعمل كلٌّ على حدة، أم أنها مترابطة؟
هي مترابطة بشكل عجيب. إذا فسد منظور واحد، يفسد الباقي.
إذا فقد الإنسان كرامته، فلن يحترم الوقت.
إذا لم نحترم الوقت، لن ننتج علمًا.
إذا لم ننتج علمًا، سنبقى مستهلكين للطبيعة لا مسخّرين لها.
وإذا انهارت المواطنة، تحولت الأمة إلى طوائف متنازعة.
هكذا يتشكل "الخلل الحضاري". ليس مجرد فساد سياسي أو اقتصادي، بل شبكة متكاملة من الرؤى المشوهة.
10. جذور الخلل في تاريخنا
وهل ترى أن هذه التشوهات حديثة، أم لها جذور تاريخية؟
لها جذور. بعد الخلافة الراشدة، بدأ الاستبداد يتسلل إلى الحكم، وتحولت الشورى إلى ملك عضوض. ومع الزمن، تكرّس الانقسام المذهبي، وضعفت قيمة العلم التجريبي، وسيطر الحفظ على العقل.
ثم جاءت عصور الانحطاط، ففقدنا منظومة القيم التي صنعت حضارتنا الأولى: احترام الإنسان، تقديس العلم، استثمار الوقت، إتقان العمل، الانفتاح على الآخر. واستمرينا في التراجع حتى أصبحنا مستهلكين لحضارة غيرنا.
11. مسؤولية التصحيح
إذن، ما السبيل لتصحيح هذا الخلل العميق؟
السبيل هو إعادة بناء هذه المناظير الثمانية في وعينا وتعليمنا ومؤسساتنا.
أن نعلّم أبناءنا أن قيمة الإنسان فوق كل اعتبار.
أن نزرع فيهم حب العلم كاكتشاف لا كحفظ.
أن نربيهم على أن الوقت حياة لا يُهدر.
أن نعيد للدين وظيفته الحضارية: عدل ورحمة وإحسان.
أن نبني ثقافة المواطنة والمساواة.
أن نعلّمهم كيف ينفتحون على العالم بلا ذوبان ولا انغلاق.
إذا أصلحنا هذه المناظير، فإن كل شيء آخر سينصلح تدريجيًا. أما إذا بقينا نعالج الأعراض دون الجذور، فلن نخرج من الدوامة.
12. رسالة للشباب
كلمة أخيرة للشباب في هذا السياق؟
أقول لهم: لا تنخدعوا بالمظاهر. أصل الخلل في "المنظور"، لا في التفاصيل اليومية فقط. اقرأوا، تعلّموا، أعيدوا النظر في طريقة رؤيتكم لأنفسكم وللعالم. إذا صحّ المنظور، صحّ العمل.
تذكّروا: النهضة ليست مستحيلة، لكنها تبدأ من تغيير طريقة تفكيرنا.
التراث الإسلامي والحضارة 
دكتور، كثيرًا ما يثار سؤال محوري: ما موقع التراث الإسلامي من مشروع النهضة؟ هل يشكّل مصدر قوة، أم أنه أصبح عائقًا يثقل كاهل الأمة؟
التراث الإسلامي موضوع حساس ودقيق، لأنه يرتبط بهوية الأمة وذاكرتها. وأول ما ينبغي أن نؤكد عليه أن التراث ليس هو الإسلام نفسه. التراث هو جهد بشري تراكم عبر القرون في تفسير النصوص، واستنباط الأحكام، وبناء العلوم. أما الإسلام فهو الوحي: القرآن الكريم والسنة الصحيحة.
النصوص معصومة، لكن التراث تأويل بشري، فيه الصواب والخطأ، فيه الرائع والمفيد، وفيه ما تجاوزه الزمن. ومن هنا تبدأ الإشكالية: إذا تعاملنا مع التراث على أنه مقدس، حبسنا أنفسنا في الماضي. وإذا جحدناه كله، فقدنا جذورنا. التحدي إذن: كيف نفرّق بين الإسلام المؤسس والإسلام المؤوَّل؟
1. الإسلام المؤسس والإسلام المؤوَّل
ماذا تقصد بهذين المصطلحين؟
أقصد أن الإسلام "المؤسس" هو النصوص الكبرى: القرآن والسنة الصحيحة. أما الإسلام "المؤوَّل" فهو ما أنتجه المسلمون من اجتهادات وتفاسير وكتب فقهية وعقائدية.
الإسلام المؤسس يقدّم قيمًا عليا: العدل، الحرية، الكرامة، الرحمة. هذه قيم صالحة لكل زمان ومكان.
الإسلام المؤول قدّم اجتهادات متنوعة: أحيانًا عظيمة وملهمة، وأحيانًا متأثرة بظروفها السياسية والاجتماعية.
المشكلة أن كثيرًا من المسلمين اليوم يخلطون بين الاثنين، فيعاملون اجتهادات القرون الوسطى على أنها دين مقدس، لا يقبل النقاش. بينما هي – في حقيقتها – إنتاج بشري نسبي، يصلح بعضه لعصره، وقد لا يصلح لعصرنا.
2. "كيمياء الإسلام" عبر التاريخ
تحدثت سابقًا عن أن "كيمياء الإسلام" تغيّرت عبر العصور. ماذا تقصد؟
أقصد أن الإسلام في بداياته كان دينًا حيًا، طاقة حضارية محرّكة. المسلمون الأوائل قرأوا القرآن كدعوة للعمل والتغيير. لذلك بَنَوا حضارة عظيمة امتدت من الصين إلى الأندلس.
لكن مع مرور الزمن، دخلت على الإسلام طبقات من التأويلات التي غيّرت طبيعته. تحولت بعض الجزئيات الصغيرة إلى قضايا مركزية: الخلاف على تفاصيل الوضوء، أو طريقة رفع اليدين في الصلاة، صار سببًا للانقسام.
هذه التفاصيل غيّرت أولويات الأمة. بدل أن يكون محور الدين هو إقامة العدل والرحمة والإحسان، أصبح محورًا للصراع المذهبي. هكذا تحولت كيمياء الإسلام: من طاقة بناء إلى أداة فرقة.
3. وظيفة التراث: هل ندرسه أم ندفنه؟
إذن، هل ندعو إلى تجاوز التراث كله؟
قطعًا لا. التراث ثروة عظيمة لا يجوز إنكارها. فيه علوم التفسير، والفقه، والحديث، واللغة، والفلسفة، والطب، والهندسة. هذه كلها كنوز لا تقدَّر بثمن.
لكن السؤال: كيف نتعامل معه؟
إذا درسناه بروح نقدية، نستفيد من خيره ونترك ما تجاوزه الزمن، يصبح رافعة حضارية.
إذا أخذناه كما هو، بلا تمييز بين النص والاجتهاد، صار عبئًا.
التراث مثل منجم ضخم: فيه ذهب كثير، لكن فيه أيضًا تراب. الحكمة أن نستخرج الذهب ونترك التراب، لا أن ندفن المنجم ولا أن نبتلع التراب كله.
4. التراث والتعليم
أحد أبرز الإشكالات اليوم أن التعليم الديني في العالم الإسلامي يقوم أساسًا على التراث. كيف ترى ذلك؟
هنا مكمن الخلل. التعليم الشرعي في كثير من جامعاتنا يدرّس كتب القرون الوسطى كما هي، بلا نقد ولا ربط بالواقع. الطالب يقضي سنوات يدرس مسائل نظرية وجزئية لا علاقة لها بالحياة المعاصرة.
يدرس مثلاً "حكم بيع العبد الآبق"، بينما مجتمعه يحتاج إلى فهم الاقتصاد الرقمي.
يحفظ تفاصيل "عدد الرضعات المحرِّمة"، بينما الأمة تبحث عن حلول لمشاكل التعليم والفقر والبطالة.
بهذا الشكل، ينشأ جيل يعيش في الماضي، غير قادر على التعامل مع تحديات الحاضر.
أنا لا أقلل من قيمة هذه المسائل في سياقها التاريخي، لكنها ليست قضايا الساعة. المطلوب هو أن نعيد ترتيب أولويات التعليم: نركز على مقاصد الشريعة الكبرى (العدل، الرحمة، المصلحة)، ثم نعيد قراءة التراث على ضوء هذه المقاصد.
5. التراث والسياسة
هل للتراث دور في تكريس الاستبداد السياسي؟
للأسف، نعم. بعض التأويلات الفقهية استُخدمت لتبرير الاستبداد. فُسِّر حديث "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" على أنه دعوة للصبر على الحاكم الظالم. بينما القرآن يقول: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}.
بهذا الفهم الخاطئ، صار الدين أداة بيد المستبدين. فُرضت على الناس طاعة مطلقة، وغُيّبت قيم الشورى والعدل والمحاسبة.
لكن إذا عدنا إلى جوهر الدين، نجده نقيض الاستبداد: الرسول صلى الله عليه وسلم أسس مجتمعًا قائمًا على الشورى، والخلفاء الراشدون قالوا للناس: "إن رأيتم فيّ اعوجاجًا فقوموني".
إذن، المشكلة ليست في الإسلام، بل في بعض التأويلات التراثية التي حُرّفت عن مقاصدها.
6. التراث والنهضة الحديثة
كيف يمكن للتراث أن يساهم في النهضة المعاصرة؟
يمكن أن يكون رافعة قوية إذا تعاملنا معه بوعي:
في الفكر السياسي: نستخرج من تجربة الرسول والخلفاء مبادئ العدل والشورى والمواطنة.
في الاقتصاد: نستفيد من قواعد الشريعة في تحريم الربا، وتشجيع التكافل، وبناء اقتصاد قائم على العدالة.
في العلم: نستلهم من علماء المسلمين الأوائل شغف البحث والاكتشاف. ابن الهيثم لم يكن ناقلًا، بل باحثًا مجددًا.
في الاجتماع: نستفيد من قيم الأسرة والتكافل التي ركّز عليها التراث.
لكن المفتاح أن نعيد قراءة التراث بعيون الحاضر، لا بعيون الماضي وحده.
7. بين التقديس والتبخيس
هناك تياران اليوم: تيار يقدس التراث ويرفض نقده، وتيار ينبذه بالكلية. أين تقف بينهما؟
أنا أرفض كلا الطرفين.
التقديس المطلق يجعلنا سجناء الماضي، غير قادرين على التجديد.
التبخيس المطلق يجعلنا مقطوعي الجذور، بلا هوية.
المطلوب موقف وسطي: أن نحترم التراث كجهد عظيم، لكن نقرأه بروح نقدية، ونستفيد منه في ضوء مقاصد الشريعة وحاجات العصر.
8. أمثلة تطبيقية
هل يمكن أن تعطينا أمثلة تطبيقية على هذه القراءة النقدية؟
نعم.
- فقه المرأة: كثير من الأحكام الفقهية صيغت في سياقات اجتماعية معينة. اليوم نحتاج إلى إعادة قراءتها في ضوء مقاصد العدل والكرامة.
- فقه السياسة: بدل أن نركز على "طاعة ولي الأمر" فقط، نعيد قراءة نصوص الشورى والمحاسبة والعدل.
- فقه الاقتصاد: نعيد إحياء فقه الوقف والتكافل، ونطوره ليواكب الاقتصاد الحديث.
هذه أمثلة على كيف يمكن أن يكون التراث مصدر إلهام، إذا قرأناه بعقل معاصر.
9. خلاصة الموقف
لو أردنا أن نلخص رؤيتك للتراث في جملة واحدة؟
أقول: التراث زاد حضاري إذا قرأناه بعقل نقدي، وعبء خانق إذا قدسناه بلا تمييز.
علينا أن نعود إلى القرآن كمرجع تأسيسي، ونستفيد من التراث كاجتهاد بشري، وننطلق إلى المستقبل بعقل منفتح.
10. رسالة للشباب
ما الرسالة التي توجهها للشباب المسلم الذي يتساءل: هل أتمسك بالتراث أم أتحرر منه؟
أقول لهم: لا تكونوا أسرى خيارين زائفين: "إما التراث كله أو لا شيء". خذوا من التراث قيمه الكبرى وإبداعاته، لكن لا تسمحوا له أن يحبس عقولكم.
- اقرأوا القرآن ككتاب حياة، لا ككتاب شعائر فقط.
- ادرسوا التراث بروح الباحث، لا بروح التابع.
- انفتحوا على علوم العصر، ووازنوا بين الأصالة والمعاصرة.
بهذا فقط، يمكن أن يكون التراث رافعة لنهضتكم، لا عبئًا على أكتافكم.
لماذا نعيش في الماضي؟ 
دكتور، سؤال يطرحه كثير من الشباب: لماذا يبدو المسلمون اليوم وكأنهم يعيشون في الماضي أكثر مما يعيشون في الحاضر أو يتطلعون إلى المستقبل؟
سؤال في الصميم. وهو يكشف عن علة حضارية عميقة. نحن أمة تملك تاريخًا مجيدًا، لكنها حولت هذا التاريخ إلى "ملجأ" و"مخدر". أصبح الماضي بالنسبة لنا مكانًا نلوذ به من قسوة الحاضر، بدل أن يكون جسرًا نعبر به إلى المستقبل.
1. سطوة الذاكرة التاريخية
هل تقصد أن قوة الذاكرة التاريخية تحولت إلى عبء؟
نعم. نحن أمة تعتز بذاكرتها الحضارية: الفتوحات، الأندلس، بغداد، قرطبة، العلماء الكبار كابن سينا وابن الهيثم وابن خلدون. هذه كلها أمجاد عظيمة.
لكن المشكلة أننا توقفنا عندها. جعلناها محور وعينا، حتى صرنا نعيش في "حنين مستمر".
- نحكي قصص الماضي في المجالس، وكأنها بديل عن صناعة إنجاز جديد.
- نكتب كتبًا عن "عظمة الحضارة الإسلامية" أكثر مما نكتب عن "كيف نبني حضارة اليوم".
- نعلّم أبناءنا أسماء الخلفاء والغزوات، لكن لا نعلمهم كيف يبتكرون أو ينهضون بالعلم.
الذاكرة التاريخية مهمة، لكنها إذا هيمنت على الحاضر، تتحول إلى قيد.
2. صدمة الانحطاط
لكن لماذا بالذات التصاقنا بالماضي أكثر من أمم أخرى؟
لأننا تعرضنا لصدمة حضارية كبرى. قبل قرون، كنا القوة العالمية الأولى. ثم تراجعت حضارتنا تدريجيًا، حتى صرنا تحت الاستعمار، وتجاوزتنا أمم كنا نعتبرها "أقل منا".
هذه الصدمة ولّدت نوعًا من "الارتداد النفسي". حين عجزنا عن مواجهة الواقع، لجأنا إلى الماضي كتعويض. مثل إنسان يفقد عمله فيظل يحدث الناس عن أمجاده السابقة.
ولهذا نجد في خطابنا الديني والثقافي ميلًا قويًا إلى "الزمن الذهبي" بدل التفكير في بناء زمن جديد.
3. الماضي كهوية
هل يعني هذا أننا نقدّس الماضي لأنه صار جزءًا من هويتنا؟
بالضبط. الماضي لم يعد مجرد تاريخ، بل أصبح مكوّنًا من مكونات الهوية. كثير من المسلمين إذا شككت في حدث تاريخي أو اجتهاد فقهي، يظن أنك تهدد دينه نفسه.
- إذا قلت إن بعض اجتهادات الفقهاء تاريخية، يتهمونك أنك تطعن في الإسلام.
- إذا دعوت إلى قراءة جديدة للسيرة، يتهمونك أنك تعبث بالمقدسات.
هكذا اندمج الماضي بالدين في وعينا، مع أن الدين شيء، والتاريخ البشري شيء آخر. هذا الخلط جعلنا أسرى الماضي.
4. دور المناهج التعليمية
وماذا عن التعليم؟ أليس له دور في هذا الميل للماضي؟
بلى. التعليم في عالمنا الإسلامي يعزز هذا الميل. مناهجنا مليئة بسرديات الماضي، لكنها فقيرة جدًا في ربط الطلاب بالواقع والمستقبل.
- الطفل يحفظ قصص الغزوات، لكنه لا يتعلم التفكير النقدي.
- الطالب يعرف أسماء ملوك بني أمية والعباس، لكنه لا يعرف شيئًا عن الثورة الصناعية أو الذكاء الاصطناعي.
- المناهج تقدم التاريخ وكأنه انتهى عند لحظة معينة، وأن دورنا هو تمجيدها لا تجاوزها.
وبهذا، نربي أجيالًا تعيش وجدانيًا في الماضي، ولا تمتلك أدوات العيش في الحاضر.
5. الدين كطاقة مستقبلية
لكن أليس الدين نفسه مرتبطًا بالماضي لأنه نزل في التاريخ؟
الدين نزل في الماضي، لكنه ليس "أسير الماضي". الدين طاقة مستقبلية، لأنه يقدّم قيمًا تصلح لكل زمان. المشكلة فينا نحن: قرأناه قراءة تاريخية جامدة.
القرآن مليء بآيات تدعو للنظر إلى الأمام: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد}. النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كان يبني أمة تتطلع إلى المستقبل. لكننا حوّلنا الدين إلى تكرار طقوسي للقصص القديمة.
الدين أرادنا أن نستفيد من الماضي، لا أن نسجن فيه.
6. أثر الإعلام والخطاب الدعوي
وهل للإعلام والخطاب الديني دور في تكريس العيش في الماضي؟
بالتأكيد. كثير من خطب الجمعة، والبرامج الدينية، والكتب المنتشرة، تركز على إعادة سرد التاريخ الإسلامي. وكأن رسالتها أن "كل الحلول موجودة في الماضي"، وما علينا إلا أن نكررها.
هذا يعمّق الوهم بأن الماضي يمكن استعادته كما هو، مع أن الظروف تغيّرت. فتصبح الدعوة إلى النهضة مجرد "إعادة إنتاج الماضي"، بدل صناعة مستقبل جديد.
7. آثار العيش في الماضي
ما أخطر نتائج هذا الانغماس في الماضي؟
أبرز النتائج:
1. الجمود الفكري: لأننا لا نسمح لأنفسنا أن نفكر خارج قوالب التاريخ.
2. العجز عن التجديد: نعيد نفس الحلول التي طبقت في سياقات مختلفة، فنفشل.
3. الانقسام المذهبي: الماضي مليء بالصراعات، وحين نستدعيه باستمرار، نعيد إنتاجها.
4. فقدان الثقة بالحاضر: نصبح أمة تعيش على الأطلال، تفخر بما كان، وتستصغر ما هو كائن.
8. مقارنة مع أمم أخرى
هل مرت أمم أخرى بهذه التجربة؟
نعم. أوروبا في القرون الوسطى عاشت أسرى الماضي الكنسي. كل شيء يُقاس بتراث الكنيسة. لكن مع عصر النهضة، تجرأت على إعادة قراءة تراثها ونقده، فانطلقت.
اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية لم تبقَ تتغنى بماضي الساموراي، بل أعادت صياغة هويتها لتبني مستقبلًا صناعيًا وتكنولوجيًا.
الفرق أن هذه الأمم تعاملت مع ماضيها كمصدر إلهام، لا كقيد. ونحن ما زلنا نراه قيدًا علينا.
9. كيف نتحرر من أسر الماضي؟
إذن كيف نخرج من هذا السجن التاريخي؟
التحرر لا يعني القطيعة، بل يعني إعادة التوازن. هناك ثلاث خطوات أساسية:
1. إعادة تعريف العلاقة بالماضي: نراه مصدر إلهام ودروس، لا مشروعًا جاهزًا للاستنساخ.
2. تجديد التعليم والخطاب الديني: نركز على الحاضر والمستقبل بقدر ما نركز على الماضي.
3. تحويل الحنين إلى عمل: بدل أن نكتفي بالفخر بالأندلس، نسأل: كيف نبني أندلسًا جديدة في عصرنا؟
10. رسالة للشباب
ما رسالتك للشباب الذين يشعرون بالضياع بين ماضٍ مثالي وحاضر مضطرب؟
أقول لهم: افتخروا بماضيكم، لكن لا تعيشوا فيه. الماضي جميل لأنه يذكّركم بما أنجزه أسلافكم، لكنه يصبح سجنًا إذا منعكم من الإنجاز.
اقرأوا التاريخ لتتعلموا الدروس، لا لتتغنوا فقط. ابنوا واقعكم بعلم وعمل وإبداع. أنتم لستم مكلفين بتكرار تجربة السلف كما هي، بل ببناء تجربة جديدة تستلهم منهم وتضيف إليهم.
11. التحرر ممكن
الماضي ثروة، لكنه قد يتحول إلى لعنة. نحن نعيش في الماضي لأننا خلطنا بين الدين والتاريخ، ولأننا عجزنا عن مواجهة الحاضر بجرأة. لكن التحرر ممكن: إذا تعلمنا أن نقرأ الماضي بعين الناقد، وأن نبني المستقبل بعين الحالم العامل.
التدين السلبي والعلمنة 
دكتور، من القضايا المثيرة للجدل اليوم ما تسميه "التدين السلبي". ماذا تقصد بهذا المصطلح؟ وكيف يرتبط بالعلمنة التي اكتسحت مجتمعاتنا؟
التدين ليس شيئًا واحدًا. هناك تدين إيجابي يحرك الإنسان نحو العمل والإبداع وبناء المجتمع. وهناك تدين سلبي يركّز على القشور، ويُفرغ الدين من روحه الحضارية، ويحوّله إلى طقوس بلا أثر.
أما العلمنة، فهي في جانب منها رد فعل على التدين السلبي، حين أصبح الدين عائقًا بدل أن يكون حافزًا. لفهم المسألة، دعنا نقسم الحديث إلى محاور.
1. معنى التدين السلبي
لنبدأ بالتدين السلبي. ما ملامحه الأساسية؟
التدين السلبي هو التدين الذي ينغلق في الفردية والشكليات، ويعجز عن صناعة أثر حضاري.
- هو تدين يختزل الدين في الشعائر فقط: صلاة، صوم، حج… دون أن ينعكس على السلوك العام.
- هو تدين يُقصي القيم الكبرى: العدل، الحرية، الرحمة، الكرامة، ليبقى مشغولًا بالتفاصيل الصغيرة.
- هو تدين يربط التدين بالانسحاب من الحياة: "دع الدنيا لأهلها، نحن نبحث عن الآخرة".
- هو تدين يتعايش مع الاستبداد، بل يبرّره أحيانًا باسم الطاعة و"اصبروا حتى يأتي الفرج".
النتيجة أن المجتمع يبدو متدينًا شكليًا، لكنه يعيش فسادًا وظلمًا وتخلفًا.
2. الجذور التاريخية للتدين السلبي
هل هذا التدين السلبي ظاهرة حديثة، أم له جذور في تاريخنا؟
له جذور قديمة. بعد الخلافة الراشدة، ومع تحول الحكم إلى ملك عضوض، بدأ الدين يُستخدم لتبرير السلطة. ظهرت فتاوى تشدد على طاعة الحاكم، وتدعو الناس للصبر على الظلم.
ومع صعود التيارات الصوفية في عصور الانحطاط، برز شكل آخر من التدين السلبي: الانسحاب من الحياة العامة، والتركيز على الخلوة والذكر الفردي. مع أن التصوف في بداياته كان تجربة روحانية عميقة، لكنه في بعض مراحله تحول إلى هروب من الواقع.
وهكذا تراجع الدين من كونه مشروعًا حضاريًا إلى كونه شأنًا فرديًا.
3. التدين السلبي في الواقع المعاصر
وكيف يظهر التدين السلبي في مجتمعاتنا اليوم؟
أمثلة كثيرة:
- نرى شعوبًا تقيم شعائرها بدقة، لكن في معاملاتها اليومية ينتشر الغش والرشوة والمحسوبية.
- نرى جماهير تملأ المساجد في رمضان، لكنهم في الأسواق يرفعون الأسعار بلا رحمة.
- نرى خطابات دينية تحث على الصلاة، لكنها لا تجرؤ على الحديث عن العدل والحرية.
هذا تناقض خطير: الدين يصبح حاضرًا في الطقوس، غائبًا في القيم.
4. أثر التدين السلبي على النهضة
وما أثر هذا النوع من التدين على مشروع النهضة؟
أثر مدمّر. التدين السلبي يجعل الأمة مطمئنة لوضعها، وكأنها أدت ما عليها بالصلاة والصيام. لكنه يغطي على غياب العدل والعمل والعلم.
النهضة تحتاج إلى دين فاعل يحرّك الناس للعمل، لا دين سلبي يخدرهم. القرآن ربط الإيمان بالعمل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}. أما إذا انفصل التدين عن العمل، فقد جوهره الحضاري.
5. العلمنة كرد فعل
إذن، كيف ترتبط العلمنة بالتدين السلبي؟
كثير من المجتمعات التي عاشت تدينًا سلبيًا، ثارت عليه. في أوروبا، الكنيسة سيطرت قرونًا، وأعاقت العلم، وحكمت الناس بفتاوى قاسية. فجاءت النهضة الأوروبية كرد فعل: فصلوا الدين عن الحياة العامة، ليحرروا العلم والسياسة من قبضة رجال الدين.
وفي مجتمعاتنا، حين رأى بعض المثقفين أن التدين في صيغته السائدة عاجز عن حل مشكلاتنا، تبنوا العلمنة. قالوا: "لننهض، يجب أن نفصل الدين عن الدولة".
بمعنى آخر: التدين السلبي كان أحد أسباب صعود العلمنة.
6. إشكالية العلمنة في العالم الإسلامي
لكن هل تنجح العلمنة في بيئتنا الإسلامية كما نجحت في الغرب؟
المسألة أعقد. أوروبا عندما علمنت حياتها، لم تكن تقطع عن نفسها صلة بالقيم، بل كانت تبحث عن التحرر من هيمنة الكنيسة. أما في العالم الإسلامي، الدين ليس مؤسسة كنسية، بل هو روح الأمة نفسها.
علمنة قسرية في بلادنا غالبًا ما فشلت، لأنها اصطدمت بالوجدان الشعبي. فالدين هنا ليس مجرد طقوس، بل هو هوية وذاكرة ومرجعية.
لكن بالمقابل، التدين السلبي لا يصلح أيضًا. الحل إذن ليس في استنساخ النموذج الغربي للعلمنة، ولا في العودة إلى تدين سلبي، بل في صياغة تدين حضاري إيجابي.
7. التدين الإيجابي كبديل
ما ملامح التدين الحضاري الإيجابي الذي يمكن أن يكون بديلاً؟
التدين الإيجابي هو الذي يجمع بين العبادة والقيمة، بين الإيمان والعمل، بين الفرد والمجتمع.
- هو تدين يجعل الصلاة وسيلة لتربية الضمير، لا مجرد طقس.
- يجعل الصوم مدرسة للرحمة والعدل، لا عادة موسمية.
- يجعل الحج مؤتمرًا عالميًا للتعارف والتكافل، لا رحلة سياحية.
- يجعل الدين دافعًا لمقاومة الظلم والفساد، لا أداة لتبريره.
بهذا التدين، يصبح الدين رافعة للنهضة، بدل أن يكون عائقًا.
8. مواجهة ثنائية زائفة
هل يعني هذا أننا نقع اليوم في ثنائية زائفة: إما تدين سلبي، أو علمنة كاملة؟
تمامًا. هذه الثنائية هي إحدى مآزق وعينا. البعض يظن أن الخلاص في "إلغاء الدين" كما فعل الغرب، والبعض يظن أن الخلاص في "العودة إلى الماضي" كما هو.
لكن الحقيقة أن الطريق الثالث هو الصحيح: تجديد التدين ليعود إلى وظيفته الحضارية. ليس الهدف إلغاء الدين ولا تجميده، بل تفعيله كطاقة للعدل والعمل والعلم.
9. أمثلة عملية
هل لديك أمثلة عملية على تدين حضاري إيجابي؟
نعم.
- في ماليزيا، تم توظيف القيم الإسلامية لبناء اقتصاد حديث: الجمع بين الشفافية والعمل المؤسسي مع الحفاظ على الهوية الدينية.
- في تركيا سابقًا، وُظفت الشعارات الإسلامية لإطلاق مشاريع تنموية: طرق، مصانع، جامعات.
- في التاريخ، دولة عمر بن عبد العزيز مثال بارز: تدين قاد إلى عدل وإصلاح اقتصادي واجتماعي.
هذه الأمثلة تبرهن أن التدين يمكن أن يكون دافعًا للنهضة إذا فُهم بشكل صحيح.
10. رسالة للشباب
ما رسالتك للشباب في ضوء هذه الإشكالية؟
أقول لهم: لا تقعوا في وهم الخيارين: تدين سلبي يخدركم، أو علمنة تقطعكم عن هويتكم. الطريق هو أن تعيدوا قراءة الدين كطاقة حياة.
- اسألوا أنفسكم: هل صلاتي تغيّر سلوكي؟
- هل صومي يجعلني أكثر رحمة؟
- هل إيماني يدفعني للعمل والإتقان؟
إن كان الجواب نعم، فهذا هو التدين الإيجابي. أما إن بقي الدين طقسًا بلا أثر، فهو تدين سلبي.
11. التدين الإيجابي الحضاري
التدين السلبي والعلمنة وجهان لعملة واحدة: كلاهما يفصل الدين عن الحياة. الأول يفصله عبر تحويله إلى طقوس شكلية، والثاني يفصله عبر إقصائه من المجال العام.
الحل هو في التدين الإيجابي الحضاري: دين يقود إلى العدل والعلم والعمل. دين يربط الأرض بالسماء، الحاضر بالمستقبل.
التراث الصوفي سلبي؟ 
دكتور، كثيرًا ما يثار جدل حول التراث الصوفي: هل هو رصيد روحي عظيم، أم أنه أحد أسباب تراجع المسلمين؟ هل يمكن القول إن التراث الصوفي سلبي؟
السؤال وجيه وحساس. لأن التصوف جزء أصيل من تاريخنا الروحي والفكري، وأثره عميق في وجدان الأمة. لكنه في الوقت نفسه كان محل جدل طويل: بين من يراه قمة الإشراق الروحي، ومن يراه سببًا للانسحاب الحضاري.
ولكي نفهم القضية بدقة، علينا أن نميز بين جوهر التصوف وانحرافاته التاريخية.
________________________________________
1. التصوف في جوهره
المحاور:
فلنبدأ بالجوهر. ما الذي مثّله التصوف في بداياته؟
الدكتور جاسم:
التصوف في بدايته كان حركة إحياء للبعد الروحي والأخلاقي في الدين. المسلمون الأوائل مع اتساع الفتوحات وانغماس الناس في الدنيا شعروا بالحاجة إلى تيار يذكّر بالزهد والورع.
الحسن البصري، رابعة العدوية، الجنيد: هؤلاء رواد ركزوا على تزكية النفس، وعمّقوا مفهوم الإحسان في قوله ﷺ: "أن تعبد الله كأنك تراه".
التصوف قدّم للإنسان بُعدًا وجدانيًا، وأخرج الدين من أن يكون مجرد شعائر جامدة إلى تجربة روحية عميقة.
هذا الجانب من التصوف لا يمكن وصفه بالسلبية، بل هو جوهر الدين الحي: إصلاح القلب، تربية الضمير، تغذية الروح.
________________________________________
2. إسهام التصوف في الحضارة
المحاور:
إذن للتصوف إسهام حضاري؟
الدكتور جاسم:
بالتأكيد. التصوف لم يكن دائمًا انسحابًا. بل في مراحل عديدة، كان مصدر إبداع وفن وعلم:
الأدب والفن: التصوف أبدع شعرًا وموسيقى ولوحات ما زالت تبهر العالم، مثل أشعار جلال الدين الرومي، وابن الفارض.
التربية: الزوايا الصوفية في المغرب والأندلس كانت مدارس لتربية الأجيال على الأخلاق.
المقاومة: بعض الحركات الصوفية قادت المقاومة ضد الاستعمار، مثل الطريقة السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، والجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر.
إذن، لا يمكن اختزال التصوف في كونه "سلبًا"، لأنه كان أحيانًا قوة نضالية وروحية وحضارية.
________________________________________
3. أين ظهر الجانب السلبي؟
المحاور:
لكن أين إذن مكمن السلبية في التراث الصوفي؟
الدكتور جاسم:
الجانب السلبي برز حين انحرف التصوف عن مقصده الأصلي (تزكية النفس) وتحول إلى:
1. انسحاب من الحياة: التركيز على الخلوة والعزلة، والهروب من قضايا الأمة.
2. تقديس المشايخ: بحيث صار كلام الشيخ فوق النقد، وتحولت الزوايا إلى دوائر مغلقة.
3. الخرافة والشعوذة: تسربت ممارسات غريبة (كرامات مبالغ فيها، أذكار مبتدعة، بدع) جعلت الناس يتعلقون بالشيخ أكثر من الله.
4. تواطؤ مع الاستبداد: بعض الطرق الصوفية فضّلت موالاة الحكام مقابل الامتيازات، بدل أن تكون صوتًا للعدل.
في هذه المظاهر، نعم: التراث الصوفي ساهم في تثبيت حالة الانحطاط، لأنه حوّل التدين من فاعلية حضارية إلى انعزال فردي.
________________________________________
4. صراع التيارات حول التصوف
المحاور:
ولهذا كثر الهجوم على التصوف من بعض التيارات؟
الدكتور جاسم:
نعم. التيار السلفي مثلًا نظر إلى التصوف في جانب انحرافاته، فحكم عليه كله بالسلبية. بينما المدافعون عنه ركزوا على إشراقاته الروحية، فأغفلوا سلبياته.
الحقيقة أن كلا الطرفين نظر جزئيًا. المطلوب هو ميزان عادل:
نأخذ من التصوف جوهره الروحي والأخلاقي.
وننقد بجرأة ممارساته المنحرفة.
________________________________________
5. أثر التصوف على العقل المسلم
المحاور:
كيف أثّر التصوف السلبي على العقل المسلم؟
الدكتور جاسم:
حين يسود التدين الصوفي المنغلق، تظهر آثار خطيرة:
القدرية المفرطة: إرجاع كل شيء إلى القضاء والقدر، فيفقد الناس حس المبادرة.
الرضا بالظلم: اعتبار الصبر على الحاكم الظالم جزءًا من الدين.
إضعاف قيمة العمل: تقديم الأوراد والأذكار على الإنتاج والعمل والإتقان.
تغليب الخيال على العقل: الانشغال بالكرامات والرؤى والأحلام، بدلًا من التفكير الواقعي.
وهكذا ساهم التصوف السلبي في تعطيل الفاعلية الحضارية.
________________________________________
6. التصوف والعلمنة
المحاور:
هل يمكن القول إن التصوف السلبي مهد الطريق للعلمنة؟
الدكتور جاسم:
جزئيًا نعم. حين تحوّل الدين إلى طقوس فردية معزولة، غابت قيمه الحضارية الكبرى. فظهرت الحاجة إلى "بديل دنيوي" ينظم الحياة العامة: وهذا هو منطق العلمنة.
بمعنى آخر: لو بقي الدين فاعلًا في السياسة والاقتصاد والثقافة بمعنى العدل والرحمة والعمل، لما وجد الناس حاجة إلى فصل الدين عن الحياة. لكن حين انسحب التصوف السلبي من الميدان، ملأته العلمنة.
________________________________________
7. إمكانات النهضة الروحية
المحاور:
إذن هل الحل في تجاوز التصوف، أم في إعادة توظيفه؟
الدكتور جاسم:
الحل في تجديد التصوف، لا في محوه. نحن بحاجة إلى البعد الروحي الذي يزكي النفس، لكننا بحاجة أن يرتبط بالعمل والحياة.
أن نجعل الذكر دافعًا للعمل لا بديلًا عنه.
أن نجعل الزهد تحررًا من الطمع، لا انسحابًا من الحياة.
أن نجعل الحب الإلهي حافزًا للعطاء، لا هروبًا من المسؤولية.
بهذا، يتحول التصوف من انسحاب سلبي إلى طاقة حضارية إيجابية.
________________________________________
8. أمثلة على التصوف الإيجابي
المحاور:
هل يمكن أن تعطينا نماذج على تصوف إيجابي؟
الدكتور جاسم:
نعم:
عمر المختار، شيخ الطريقة السنوسية، قاد مقاومة شرسة ضد الاستعمار الإيطالي. كان صوفيًا زاهدًا، لكنه جمع بين الروحانية والجهاد.
الأمير عبد القادر الجزائري، صوفي عارف، لكنه كان قائدًا سياسيًا ومفكرًا. جسّد توازن الروح والعقل.
جلال الدين الرومي، الذي قدّم رسالة عالمية عن الحب الإلهي، تُقرأ حتى اليوم شرقًا وغربًا.
هذه النماذج تبرهن أن التصوف ليس بالضرورة سلبيًا، بل يمكن أن يكون قوة إصلاحية كبرى إذا ارتبط بالواقع.
________________________________________
9. رسالة للشباب
المحاور:
ما الذي تقوله للشباب الذين يحتارون بين رفض التصوف كليةً أو الانغماس فيه بلا نقد؟
الدكتور جاسم:
أقول لهم: لا تقبلوا ثنائية زائفة. لا تقولوا: "إما أن نكون صوفيين كما ورثنا، أو نرفض التصوف كله". خذوا من التصوف ما يعمّق روحكم، ويزكي أنفسكم، ويجعلكم أرقى أخلاقًا. لكن لا تقبلوا أن يتحول إلى عذر للتقاعس أو الانسحاب.
الدين كله يقوم على التوازن: روح وجسد، دنيا وآخرة، عبادة وعمل. إذا فقد التصوف هذا التوازن، فقد قيمته.
________________________________________
10. الخلاصة
التراث الصوفي ليس سلبيًا بإطلاق، ولا إيجابيًا بإطلاق. هو تراث بشري ضخم، فيه إشراقات عظيمة وفيه انحرافات خطيرة. السلبي فيه هو الانسحاب من الحياة وتبرير الظلم، والإيجابي فيه هو تزكية النفس وإحياء الروح.
التحدي اليوم هو أن نستعيد تصوفًا إيجابيًا حضاريًا: يربط الروح بالعمل، العبادة بالعمران، الذكر بالعدل، الحب الإلهي بخدمة الإنسان.
________________________________________
الأنظمة الظالمة والحضارة 
المحاور:
دكتور، تحدّثت عن أن الاستبداد السياسي هو من أعظم معوّقات النهضة، وأن الأنظمة الظالمة لا تنتج حضارة. هل يمكن أن نحلّل ذلك بعمق أكبر؟
الدكتور جاسم:
بالتأكيد. العلاقة بين الظلم وانهيار الحضارات علاقة راسخة. لا يمكن لحضارة أن تنمو في ظل بيئة يحكمها القهر والخوف. الحضارة تحتاج إلى إنسان حرّ، يشعر بكرامته، ويبدع بلا خوف، ويتعامل في ظل قانون عادل. الاستبداد يحطم هذا كله.
دعنا نتناول المسألة عبر عدة مستويات: الإنسان، المجتمع، العلم، الاقتصاد، الدين، والتاريخ.
________________________________________
1. تعريف الاستبداد الحضاري
الاستبداد ليس مجرد ظلم فردي من حاكم طاغية. بل هو منظومة:
احتكار السلطة والثروة في يد نخبة صغيرة.
إلغاء الشورى والمشاركة.
السيطرة على الإعلام والتعليم والفكر.
نشر الخوف بدل الثقة.
الاستبداد هو حين تصبح الدولة أداة لحماية الحاكم، بدل أن تكون أداة لحماية الشعب.
________________________________________
2. أثر الاستبداد على الإنسان
المحاور:
فلنبدأ بالإنسان، فهو لبّ الحضارة.
الدكتور جاسم:
الإنسان هو عماد أي مشروع حضاري. لكن في ظل الاستبداد:
الخوف يقتل الإبداع: الموظف يخاف أن يقترح فكرة جديدة قد تُفهم خطأ. الكاتب يخشى أن يكتب نقدًا. العالم يتجنب البحث في موضوعات حساسة.
النفاق يصبح ثقافة عامة: الناس يمدحون الحاكم ولو كانوا ساخطين، لأن الصدق يعرّضهم للخطر.
السلبية تنتشر: المواطن يقول: "ما بيدي حيلة"، فيفقد روح المبادرة.
الكرامة تُهان: وعندما يُهان الإنسان، لا يمكن أن يبني حضارة.
الحضارة تحتاج إلى إنسان حرّ، واثق من نفسه، يشعر أن صوته له قيمة.
________________________________________
3. الاستبداد والعلم
المحاور:
وماذا عن العلم، وهو أساس كل نهضة؟
الدكتور جاسم:
الاستبداد عدو العلم. لماذا؟ لأن العلم قائم على النقد، والسؤال، وكسر المألوف. بينما الاستبداد قائم على الطاعة العمياء.
في بيئة استبدادية، البحث العلمي يصبح شكليًا. الجامعات تخرّج حفظة لا مفكرين.
التمويل يذهب إلى مشاريع تخدم صورة الحاكم، لا حاجات المجتمع.
العلماء يتحولون إلى "موظفين عند السلطان"، لا إلى قادة فكر.
لهذا، المجتمعات المستبدة لا تنتج علومًا حقيقية، بل تستهلك علوم الآخرين.
________________________________________
4. الاستبداد والاقتصاد
المحاور:
لكن هناك دول استبدادية غنية بالموارد، مثل بعض الدول النفطية. كيف نفسر ذلك؟
الدكتور جاسم:
هذا ما أسميه "اقتصاد الريع". قد تملك الدولة ثروة هائلة، لكنها لا تنتج حضارة لأنها تقوم على:
توزيع الأموال لشراء الولاءات بدل بناء اقتصاد منتج.
هيمنة الحاكم وأسرته على العقود والمشاريع.
غياب الشفافية، وانتشار الفساد.
النتيجة أن الاقتصاد يبقى هشًا، يعتمد على مصدر واحد، وعرضة للانهيار إذا تغيّرت الظروف.
بينما الاقتصاد في المجتمعات الحرة يقوم على العمل والإبداع، لا على المنح والهبات.
________________________________________
5. الاستبداد والتعليم
المحاور:
التعليم هو عصب المستقبل. كيف يتأثر بالاستبداد؟
الدكتور جاسم:
في بيئة الاستبداد، التعليم يتحول إلى أداة لإنتاج الطاعة.
المناهج تُفصَّل لتكرّس الولاء للحاكم.
التفكير النقدي يُعتبر خطرًا.
المعلم يُطلب منه أن "يُلقّن"، لا أن يحرر العقول.
بهذا، تُنتَج أجيال تعرف كيف تحفظ، لكنها لا تعرف كيف تبدع أو تنتقد أو تخترع.
________________________________________
6. الاستبداد والهجرة
المحاور:
هل هذا ما يفسر هجرة العقول؟
الدكتور جاسم:
بالتأكيد. عندما لا يجد المبدع فضاءً حرًا، يبحث عنه في الخارج.
الطبيب يهاجر ليستطيع أن يبحث بحرية.
العالم يهاجر لأن مختبره في وطنه بلا إمكانات.
المفكر يهاجر لأن رأيه قد يزج به في السجن.
هكذا تنزف أوطاننا خيرة عقولها، فتصبح الجامعات الغربية مليئة بالعلماء العرب والمسلمين.
________________________________________
7. الاستبداد والدين
المحاور:
كيف يوظّف الاستبداد الدين؟
الدكتور جاسم:
الاستبداد بارع في توظيف الدين لخدمته.
أحيانًا يرفع شعارات دينية لتبرير سلطته.
أحيانًا يقمع الدين كله لأنه يراه خطرًا على بقائه.
وأحيانًا ينتقي من الدين ما يضمن طاعة الناس وصبرهم على الظلم.
النتيجة أن الدين يُفرغ من جوهره الحضاري (العدل، الحرية، الكرامة)، ليصبح مجرد أداة سياسية.
لكن الدين الحقيقي يقاوم الظلم: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}.
________________________________________
8. أمثلة من التاريخ الإسلامي
المحاور:
هل هناك شواهد تاريخية على أن الظلم يهدم الحضارات؟
الدكتور جاسم:
نعم.
الأندلس: حين ساد العدل والحرية الفكرية، أبدعت الحضارة الأندلسية في الفلسفة والطب والفن. وحين دبّ الاستبداد والصراعات، انهارت سريعًا.
الدولة العباسية: في عصورها الأولى، ازدهرت العلوم في بيت الحكمة. لكن مع تسلط الخلفاء واستبدادهم، خبا وهج الحضارة.
العثمانيون: في بداياتهم كانوا قوة عالمية، لكن مع تراجع الشورى وسيطرة الاستبداد، تجمد الفكر وانهارت الدولة.
التاريخ شاهد أن الاستبداد سمّ قاتل للحضارة.
________________________________________
9. أمثلة معاصرة
المحاور:
وماذا عن واقعنا اليوم؟
الدكتور جاسم:
الواقع مليء بالأمثلة:
دول عربية وإسلامية غنية، لكن شعوبها تعيش فقرًا وبطالة، بسبب الفساد والاستبداد.
مجتمعات تستهلك التكنولوجيا دون أن تنتجها، لأن الحرية غائبة.
شباب يهاجرون بالآلاف، لأن بلدانهم لا تمنحهم فرصة للعمل والإبداع.
في المقابل، دول مثل كوريا الجنوبية أو ماليزيا أو سنغافورة حققت قفزات هائلة لأنها اعتمدت على العدل والحرية والعمل المؤسسي.
________________________________________
10. شروط التحرر
المحاور:
إذا كان الاستبداد بهذا العمق، فما الطريق للخلاص؟
الدكتور جاسم:
الخلاص لا يكون بثورات عاطفية فقط. بل عبر مشروع تحرر متدرج، يقوم على:
1. الوعي: أن يدرك الناس أن حريتهم حق، لا منحة.
2. المجتمع المدني: بناء مؤسسات مستقلة تخلق توازنًا مع السلطة.
3. القانون: وضع قوانين عادلة تحمي الحقوق وتضمن تداول السلطة.
4. التربية: تعليم الأجيال قيم الحرية والمواطنة.
5. الصبر الاستراتيجي: لأن التغيير لا يتم في يوم وليلة، بل عبر أجيال.
________________________________________
11. النموذج النبوي
المحاور:
هل في التجربة النبوية ما يلهمنا في مواجهة الاستبداد؟
الدكتور جاسم:
بالتأكيد. الرسول ﷺ بنى مجتمعًا على أساس الشورى والعدل. في وثيقة المدينة، جعل المسلمين واليهود في عقد اجتماعي واحد قائم على العدالة. لم يحتكر السلطة، بل كان يستشير أصحابه في كل كبيرة وصغيرة.
الخلفاء الراشدون ساروا على هذا النهج:
أبو بكر قال: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
عمر قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟".
هذه النماذج تؤكد أن الإسلام لا يقبل الاستبداد، بل يقيم الحكم على الشورى والعدل.
________________________________________
12. رسالة للشباب
المحاور:
ما الكلمة التي تود أن توجهها للشباب في مواجهة هذه القضية؟
الدكتور جاسم:
أقول لهم: لا تيأسوا. الاستبداد مهما طال، زائل. لكن زواله يحتاج إلى وعي وصبر وتنظيم. لا تنخدعوا بالشعارات، ولا تتصوروا أن النهضة تأتي بقرار سريع.
ابنوا وعيًا، أسسوا مؤسسات، شاركوا في الإصلاح، طالبوا بالعدل والقانون. واعلموا أن الحضارة ليست في المباني الفخمة، بل في الإنسان الحرّ.
________________________________________
13. الخلاصة
الاستبداد ليس مجرد ظلم سياسي، بل منظومة تقتل الإنسان والعلم والاقتصاد والتعليم.
التاريخ الإسلامي والمعاصر شاهد أن الحضارة تنهض بالعدل والشورى، وتنهار بالظلم والقهر.
لا نهضة بلا تحرر من الاستبداد.
الدين نفسه يؤكد أن العدل هو غاية الرسالات: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات… ليقوم الناس بالقسط}.
تأملات في النهوض الحضاري (1:50:46)
المحاور:
دكتور، بعد هذا التشخيص العميق للخلل الحضاري، والاستبداد، والتراث، والماضي، يبقى السؤال الكبير: كيف يمكن أن ننهض؟ ما هي تأملاتك حول طريق النهوض الحضاري؟
الدكتور جاسم:
سؤال يستحق أن يكون خاتمة الحوار. لأن كل ما تحدثنا عنه من تشخيص لا قيمة له إذا لم يتحول إلى رؤية للمستقبل. النهضة ليست حلمًا رومانسيًا، ولا مجرد خطابات، بل هي مشروع طويل، يتطلب وعيًا وصبرًا وبناءً متدرجًا.
دعنا نقسّم التأملات إلى محاور كبرى: الإنسان، الفكر، القيم، المؤسسات، التعليم، الاقتصاد، الزمن، والعمل الجماعي.
________________________________________
1. الإنسان أولاً
المحاور:
لنبدأ بالإنسان، وهو لبّ مشروعك الفكري دائمًا.
الدكتور جاسم:
الحضارة مشروع إنساني. تبدأ من الإنسان وتنتهي بالإنسان. إذا استعدنا قيمة الإنسان، يمكن أن نستعيد كل شيء.
الإنسان الحرّ يبدع.
الإنسان الذي يشعر بكرامته يعطي.
الإنسان الذي يتعلم التفكير النقدي يصنع علمًا ومؤسسات.
لذلك، أي مشروع نهضوي يجب أن يبدأ بسؤال: أي نوع من الإنسان نريد أن نصنع؟
هل نريد إنسانًا خانعًا مطيعًا؟ أم إنسانًا حرًّا مسؤولًا؟ هذا هو الفارق بين حضارة تنهض وأخرى تنهار.
________________________________________
2. إعادة بناء الفكر
المحاور:
وماذا عن الفكر؟
الدكتور جاسم:
الفكر هو البوصلة. إذا كانت البوصلة معطوبة، سنضيع الطريق مهما سرنا.
نحتاج إلى:
تجديد قراءتنا للقرآن: لا نقرأه فقط ككتاب شعائر، بل كمشروع حضاري يربط بين الإيمان والعمل.
إحياء العقل النقدي: لا نكرر ما قاله السابقون بلا وعي، بل نعيد النظر، ونميّز بين النص والاجتهاد.
تحرير الفكر من الاستبداد: أن يشعر المفكر أنه آمن في نقده وبحثه، لا يخاف السجن أو القمع.
بدون فكر حرّ، لن يكون لدينا مشروع حضاري متماسك.
________________________________________
3. القيم كمرتكز
المحاور:
هل يمكن أن تنهض أمة بلا قيم؟
الدكتور جاسم:
لا. القيم هي روح الحضارة. العلم بلا قيم ينتج قنابل نووية، لكن العلم مع القيم ينتج تنمية وإنسانية.
العدل: أساس الاستقرار.
الحرية: أساس الإبداع.
الرحمة: أساس التكافل.
الكرامة: أساس احترام الإنسان.
هذه القيم ليست شعارات، بل يجب أن تتحول إلى قوانين ومؤسسات وثقافة يومية.
________________________________________
4. المؤسسات بدل الأفراد
المحاور:
كثيرًا ما تنتقد ثقافة الفردية في مجتمعاتنا. لماذا؟
الدكتور جاسم:
لأن الحضارة لا يبنيها فرد، مهما كان عظيمًا. الحضارة تبنيها مؤسسات.
في الغرب، الجامعات والمراكز البحثية هي التي تصنع التقدم.
في اليابان، المؤسسات الاقتصادية والتعليمية هي التي قادت النهضة.
بينما في مجتمعاتنا، ننتظر "القائد الملهم". فإذا رحل، انهار كل شيء.
النهضة تحتاج إلى مأسسة العمل: أن نخلق مؤسسات تعليمية، إعلامية، اقتصادية، سياسية، تعمل وفق قوانين لا وفق أهواء أشخاص.
________________________________________
5. التعليم مفتاح التغيير
المحاور:
التعليم دائمًا حاضر في حديثك.
الدكتور جاسم:
التعليم هو المفتاح الأكبر. إذا صلح، صلح كل شيء. إذا فسد، فسد كل شيء.
نحتاج إلى تعليم يحرر العقول، لا يلقنها.
نحتاج إلى مناهج تربط بين العلم والعمل، بين النظرية والتطبيق.
نحتاج إلى معلم قدوة، لا مجرد موظف.
التعليم هو "المصنع الحقيقي للنهضة". إذا أردت أن ترى مستقبل أمة، انظر إلى مدارسها اليوم.
________________________________________
6. الاقتصاد المنتج
المحاور:
هل يمكن أن تنهض أمة بلا اقتصاد قوي؟
الدكتور جاسم:
مستحيل. الاقتصاد هو عصب الحضارة. لكنه يجب أن يكون اقتصادًا منتجًا، لا ريعيًا.
الاقتصاد الريعي (المعتمد على النفط أو المساعدات) يخلق شعوبًا مستهلكة، لا مبدعة.
الاقتصاد المنتج (المعتمد على الصناعة والزراعة والتكنولوجيا) يخلق شعوبًا فاعلة.
الأمة التي تريد النهضة يجب أن تبني اقتصادًا مستقلًا، متنوعًا، قائمًا على الإبداع والعمل لا على الصدقات والهبات.
________________________________________
7. قيمة الزمن
المحاور:
كثيرًا ما تشدد على الوقت.
الدكتور جاسم:
الوقت هو الحياة. أمة لا تحترم وقتها، لا يمكن أن تنهض.
في الغرب، الثانية لها قيمة.
عندنا، الموعد "مرن"، والمشاريع تتأخر سنوات.
النهضة تحتاج إلى وعي جديد بالزمن: أن ندير وقتنا كما ندير أموالنا. أن نعتبر كل دقيقة جزءًا من مشروع النهضة.
________________________________________
8. العمل الجماعي
المحاور:
أين مكانة العمل الجماعي في مشروع النهضة؟
الدكتور جاسم:
أساسية. الفرد قد يبدع، لكنه لا يبني حضارة. العمل الجماعي المنظم هو الذي يحول الأفكار إلى مؤسسات.
الشباب إذا عملوا متفرقين، يضيع جهدهم.
إذا اجتمعوا على رؤية مشتركة، يمكن أن يغيروا وجه الأمة.
النهضة هي "مشروع جماعي طويل النفس"، لا مغامرة فردية.
________________________________________
9. دروس من التاريخ
المحاور:
هل هناك دروس تاريخية تلخص لنا طريق النهضة؟
الدكتور جاسم:
كثيرة:
الأندلس: ازدهرت حين جمعت بين العلم والفن والعدل، وسقطت حين دبّ الظلم والتفرق.
اليابان: بعد الحرب العالمية الثانية كانت مدمرة، لكنها أعادت بناء نفسها بالعلم والانضباط.
كوريا الجنوبية: قبل ستين عامًا كانت من أفقر دول العالم، واليوم تنافس في التكنولوجيا.
الدرس: ليس هناك أمة محكوم عليها بالتخلف. من يأخذ بأسباب النهضة ينهض، ومن يهملها يسقط.
________________________________________
10. خارطة طريق عملية
المحاور:
لو أردنا أن نضع خطوات عملية، كيف نبدأ؟
الدكتور جاسم:
أقترح خمس خطوات:
1. بناء وعي حضاري جديد: من خلال التعليم، الإعلام، الخطاب الديني.
2. إصلاح التعليم جذريًا: ليصبح مصنعًا للعقول الحرة.
3. تمكين المجتمع المدني: ليشارك في القرار ويوازن السلطة.
4. الاستثمار في الاقتصاد المنتج: الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا.
5. زرع قيم العدل والحرية: في القانون والثقافة والمؤسسات.
هذه ليست خطوات قصيرة، بل مشروع أجيال.
________________________________________
11. البعد الروحي
المحاور:
هل للروحانية دور في النهضة؟
الدكتور جاسم:
بالتأكيد. النهضة ليست مادية فقط. لا بد أن تتغذى بالروح. لكن الروحانية التي نريدها ليست انسحابًا صوفيًا سلبيًا، بل روحانية تحفز على العمل والعطاء.
أن يكون الذكر دافعًا للإنتاج.
أن يكون الصوم تدريبًا على الانضباط.
أن يكون الإيمان وقودًا للعدل.
بهذا، يجتمع الروح والجسد في مشروع النهضة.
________________________________________
12. رسالة للشباب
المحاور:
وأخيرًا، ما رسالتك للشباب وهم يسمعون هذه التأملات؟
الدكتور جاسم:
أقول لهم: أنتم جيل الأمل. لا تيأسوا من الواقع مهما كان مظلمًا. النهضة ليست خيالًا، بل قانونًا: من أخذ بأسبابها نالها.
ابدأوا بأنفسكم: علّموا عقولكم، زكّوا أرواحكم، احترموا وقتكم.
ابحثوا عن العمل الجماعي: انخرطوا في مؤسسات، ابنوا مشاريع، تعاونوا.
لا تنشغلوا بالحنين إلى الماضي، بل بصناعة المستقبل.
تذكروا دائمًا أن الحضارة ليست "مشروع فرد"، بل "رحلة أمة".
________________________________________
13. الخلاصة
تأملات في النهوض الحضاري يمكن تلخيصها في معادلة:
إنسان حر + فكر نقدي + قيم عليا + مؤسسات قوية + تعليم حر + اقتصاد منتج + احترام الزمن + عمل جماعي = نهضة حضارية.
هذه ليست وصفة سحرية، لكنها خارطة طريق أثبتها التاريخ.