من التنشئة إلى التمكين:
مقاربة نفسية تربوية تحليلية لأثر المنظومة التعليمية والثقافية في بناء الشخصية الاجتماعية
أمينة زيادة - جمعة عبد دارعاصي
(ملخص)
1. مقدمة:
التنشئة الاجتماعية هي الأساس في تكوين شخصية الفرد، حيث تتحول من كائن بيولوجي إلى عضو فاعل في المجتمع عبر التربية والتعليم والثقافة. الشخصية تتشكل من خلال مراحل متداخلة تبدأ بالتنشئة وتنتهي بالتمكين، الذي يتيح للفرد القدرة على الفعل والتأثير.
في ظل التغيرات المعاصرة، أصبحت مؤسسات التنشئة مثل الأسرة والمدرسة مطالبة بتأهيل الفرد ليكون مستقلًا وفاعلًا، حيث التمكين هو نتيجة طبيعية للتنشئة السليمة. ومع ذلك، توجد فجوة بين ما توفره هذه المؤسسات ومتطلبات التمكين الحقيقية.
تهدف الدراسة إلى فهم العلاقة بين التنشئة والتمكين، وتبيان دور المنظومة التعليمية والثقافية في بناء شخصية اجتماعية متوازنة وقادرة على المبادرة، مع الدعوة إلى تنشئة قائمة على النقد والحوار لتعزيز الوعي والاستقلالية والمواطنة الفاعلة.
2. مفاهيم البحث:
1.2 مفهوم التنشئة الاجتماعية:
التنشئة الاجتماعية هي عملية تفاعل الفرد مع بيئته الاجتماعية والثقافية بهدف اكتساب القيم والمعايير والسلوكيات المقبولة اجتماعياً، مما يساهم في تشكيل شخصيته وتكيّفه مع المجتمع. تتم هذه العملية عبر مؤسسات التنشئة مثل الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام، وتلعب دورًا حيويًا في النمو النفسي والمعرفي والاجتماعي للفرد. يعرفها إميل دور كايم بأنها استبدال الأبعاد البيولوجية بأبعاد اجتماعية وثقافية توجه سلوك الفرد. وفي معجم العلوم الاجتماعية، تُعرّف على أنها انتقال الثقافة من جيل إلى جيل وتشكيل الأفراد ليعيشوا في مجتمع ذي ثقافة معينة عبر تعلّم اللغة والدين والتقاليد والقيم والمهارات. إجرائيًا، التنشئة الاجتماعية هي العملية المستمرة التي يكتسب فيها الفرد القيم والمعايير والسلوكيات الاجتماعية ويتعلم التفاعل داخل مجتمعه عبر مؤسسات التنشئة، فتتجلى في نموه النفسي والمعرفي والاجتماعي، وتكّيفه مع الأدوار الاجتماعية، ما يعكس انتقال الثقافة وتشكيل الهوية الاجتماعية منذ الطفولة حتى الرشد.
2.2 التمكين:
التمكين هو عملية تهدف إلى تعزيز قدرات الأفراد أو الجماعات على التحكم في حياتهم وتحقيق أهدافهم، عبر تزويدهم بالمعرفة والمهارات وإزالة العوائق التي تعيق مشاركتهم الفعالة في المجتمع، ما يعزز استقلاليتهم وثقتهم بأنفسهم ويُحسّن أدائهم الفردي والجماعي. من منظور نفسي تربوي، يُعتبر التمكين عملية تعليمية تهدف إلى تطوير الإمكانات النفسية والمعرفية والاجتماعية للمتعلّم، من خلال تعزيز ثقته بنفسه وتنمية مهارات التفكير وحل المشكلات، وإشراكه الفعّال في التعلم ليتمكن من تحمل المسؤولية واتخاذ القرار والمشاركة الإيجابية في مجتمعه. عملياً، يشمل التمكين مجموعة عمليات نفسية تربوية تنمي القدرات الذاتية للمتعلم عبر تعزيز ثقته، وتطوير التفكير النقدي وحل المشكلات، وزيادة مشاركته في بيئة التعلم، مما يرفع دافعيته للإنجاز ويمنحه استقلالية في اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية في مختلف المواقف التعليمية والاجتماعية.
3. التنشئة الاجتماعية كمنطلق لتشكيل الشخصية، والتمكين كمحصلة للتنشئة السليمة:
التنشئة الاجتماعية تمثل عملية تفاعل يكتسب من خلالها الفرد القيم والمعايير والسلوكيات التي تؤهله للتكيف مع المجتمع، حيث تبدأ بالأسرة ثم المدرسة ووسائل الإعلام والمجتمع الأوسع. هذه العملية لا تقتصر على نقل القيم فقط، بل تبني شخصية الفرد وقدرته على اتخاذ المواقف والتعبير عن ذاته وتشكيل هويته الفردية والاجتماعية. أما التمكين، فهو ناتج طبيعي للتنشئة السليمة، ويعني اكتساب الفرد القدرة على التحكم في حياته من خلال الوعي والمعرفة والثقة بالنفس واتخاذ القرار، ويشمل أبعادًا نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية، مبنيًا على الحوار واحترام قدرات الفرد ومهاراته.
4. العلاقة الجدلية بين التنشئة والتمكين، عوامل معيقة ومعززة التي تحول دون تمكين الشخصية:
العلاقة بين التنشئة والتمكين جدلية ومتبادلة، فلا يمكن تحقيق التمكين دون تنشئة صحيحة، ولا التنشئة السليمة دون تمكين فعّال. التنشئة التي تقوم على القمع والتهميش تخلق شخصية ضعيفة وغير قادرة على اتخاذ القرارات أو الدفاع عن حقوقها، بينما التنشئة التي تشجع الحوار، والنقد، والتفكير المستقل تولّد أفراداً متمكنين يساهمون بفاعلية في المجتمع. العلاقة إذًا هي علاقة تفاعلية مستمرة.
5. دور المنظومة التعليمية في بناء الشخصية الاجتماعية:
تلعب المنظومة التعليمية دورًا أساسيًا في تشكيل شخصية الفرد وتزويده بالمعرفة والقيم الاجتماعية. فهي لا تقتصر على التعليم الأكاديمي، بل تنمي أيضًا مهارات التعاون والاحترام والانضباط من خلال التفاعل اليومي داخل المدرسة. كما تعزز المناهج الحديثة التفكير النقدي والثقة بالنفس، مما يمكّن المتعلم من الاندماج الفعّال في المجتمع والمساهمة في تنميته وبنائه بشكل ديمقراطي ومتماسك.
6. تأثير الثقافة في تشكيل الشخصية الاجتماعية:
الثقافة تشكّل الأساس في سلوك الأفراد داخل المجتمع، فهي تؤثر على تصوراتهم للعالم وتنظيم علاقاتهم. التنشئة الاجتماعية تُكسب الفرد سلوكيات تتوافق مع قيم المجتمع، مما يعزز التفاعل الاجتماعي. الثقافة تحدد القيم والمعايير التي تميّز بين المقبول والرفض، وتبني الهوية والانتماء عبر اللغة والدين والعادات. كما تؤثر على طريقة التفكير والسلوك، فالثقافات المنفتحة تعزز النقد والاستقلال، بينما الثقافات السلطوية تنتج التبعية. إضافة إلى ذلك، تؤثر الثقافة على قدرة الفرد في تقبّل الاختلاف والتفاعل مع الآخرين، وتوجه طموحاته نحو تحقيق الذات. إذًا، الثقافة ليست فقط بيئة محيطة، بل قوة فاعلة تشكّل الشخصية وتوجه السلوك والتفاعل الاجتماعي.
7. التمكين كمرحلة متقدمة من التنشئة:
التمكين هو مرحلة متقدمة بعد التنشئة، يتحول فيها الفرد من متلقي إلى فاعل قادر على اتخاذ القرار والمشاركة في التغيير. يعتمد التمكين على تنشئة صحيحة تنمي الثقة بالنفس والقدرة على النقد والاستقلالية. التنشئة تزود الفرد بالقيم والمعايير، بينما التمكين يعزز دوره في إعادة تشكيل هذه القيم والمشاركة الفعالة في المجتمع. يظهر هذا في نظريات تربوية وسوسيولوجية، كما أن تمكين المرأة يرتبط بتنشئة تعزز المساواة وتكسر الأدوار النمطية. الانتقال إلى التمكين يعكس نضج الشخصية واستعدادها للمساهمة الواعية والبناءة في المجتمع.
8. التكامل بين التعليم والثقافة في بناء الشخصية الاجتماعية:
يتكامل بناء الشخصية الاجتماعية من خلال تفاعل المنظومة التعليمية مع القيم الثقافية، حيث يوفر التعليم الأدوات المعرفية والمهارية، بينما توجه الثقافة السلوك والاتجاهات. هذا التكامل يساهم في تشكيل شخصية قادرة على التفاعل الإيجابي، الإبداع، والاندماج في المجتمع. ويُعد التناغم بين التعليم والثقافة أساساً لبناء شخصية متوازنة، إذ ينقل التعليم المعرفة والمهارات، بينما تصقل الثقافة هذه المعرفة إلى سلوك حضاري وفكر واعٍ. وتتطلب بناء شخصية قادرة على التأقلم والمبادرة والمشاركة الاجتماعية مرحلتين متكاملتين: التنشئة الاجتماعية والتمكين، فالمجتمعات الناجحة هي التي تدمج بينهما لتخلق مواطنين فاعلين ومبادرين.
- العلاقة بين التعليم والثقافة:
التعليم عملية منظمة تنقل المعرفة والمهارات والقيم عبر الأجيال، في حين تمثل الثقافة مجموعة من القيم والمعتقدات والمعارف والسلوكيات التي تحدد هوية المجتمع وطريقة تفاعله مع القضايا المختلفة. باندماج التعليم مع الثقافة، يتمكن الفرد من فهم بيئته الاجتماعية والتفاعل معها بوعي ومسؤولية.
- دور التكامل في بناء الشخصية الاجتماعية:
يكمن دور التكامل في بناء الشخصية الاجتماعية في تأثيره الإيجابي عبر التعليم والثقافة، حيث يعمل على غرس القيم الثقافية والأخلاقية التي تعزز تماسك المجتمع ووحدته. كما يعزز التفكير النقدي والإبداعي لدى الأفراد، ما يمكنهم من فهم القضايا الاجتماعية واتخاذ قرارات مدروسة. بالإضافة إلى ذلك، يساهم هذا التكامل في رفع الوعي الاجتماعي والمسؤولية المجتمعية، مما يشجع الأفراد على المشاركة الفاعلة في تنمية مجتمعاتهم.
9. خاتمة
توضح الدراسة أن العلاقة بين التنشئة الاجتماعية والتمكين علاقة جدلية وتفاعلية، حيث تشكل التنشئة الأساس في بناء الشخصية، بينما يمثل التمكين تتويجًا لنجاح هذه العملية وتعزيزًا للفرد ليكون فاعلًا في مجتمعه. ويتجاوز دور المنظومة التعليمية والثقافية الجانب المعرفي إلى بناء قدرات التفكير النقدي، واتخاذ القرار، والمشاركة الإيجابية في الحياة الاجتماعية. لا يتحقق التمكين إلا بتنشئة قائمة على الحوار والمشاركة واحترام الفرد وتقدير طاقاته. وتشير الدراسة إلى أن اختلال التوازن في التنشئة، سواء عبر القمع أو التهميش أو ضعف البيئة التعليمية، يؤدي إلى ضعف الشخصية ويحد من فرص التمكين. لذا يجب أن يركز الإصلاح التربوي والثقافي على تعزيز التكامل بين تنشئة سليمة وتمكين فعلي لبناء مجتمعات قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة.
توضيح: هذا النص ملخص لبحث بعنوان:
من التنشئة إلى التمكين: مقاربة نفسية تربوية تحليلية لأثر المنظومة التعليمية والثقافية في بناء الشخصية الاجتماعية
تأليف: أمينة زيادة - جمعة عبد دارعاصي
مجلة: الحكمة للدراسات التربوية والنفسية - المجلد 13، العدد 2، الصفحة 65-81 تاريخ 2025-06-18
رابط المقالة:https://asjp.cerist.dz/en/article/271092