المسلمون والجبرية العملية

التصنيف

المقالات

التاريخ

14/04/2025

عدد المشاهدات

251

"لا تُورثوا أبناءكم سلبيتكم"

ازدواجية الوعي: بين رفض الجبر نظرياً وتقبّله عملياً

لا تكاد تجد مسلماً يقول لك إنني مجبر على فعلٍ ما من قِبل الله عزَّ وجل، فهذا يتناقض مع صريح العدالة الإلهية وصريح معنى يوم الحساب، فما الفائدة من الحساب على فعلٍ أو قولٍ كنت مجبراً على فعله أو قوله، والآيات التي تتحدث عن حرية الإرادة كثيرة كقوله تعالى:﴿ ٱقرَأ كِتَبَكَ كَفَى بِنَفسِكَ ٱليَومَ عَلَيكَ حَسِيبا  ﴾ الإسراء: 14 ،و ﴿ إِنَّا هَدَينَهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وَإِمَّا كَفُورًا  ﴾ الإنسان: 3 ، وحتى الآيات التي تشي للوهلة الأولى بانتفاء حرية الإرادة كقوله تعالى:  ﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلعَٰلَمِينَ  ﴾ التكوير: 29  و ﴿ والله خلقكم وما تعملون ﴾ الصافات: 96 يقوم العقل المسلم مباشرة بفهمها فهماً يثبت به حرية الإرادة.

فالتصوُّر النظري لمفهوم "حرية الإرادة" عندهم صريح في عدم أخذهم بإجبار الناس على الفعل، وفي عدم انتفاء قدرتهم على اختيار ما يناسبهم وما يريدون، فما من إكراه على أفعالهم ولا إراداتهم ولا أقوالهم.

ولكن العجيب أنَّك تجد إلى جانب النفي العلمي الواضح للجبرية شيئاً آخر، هو الإثبات العملي لمعنى الجبر والإكراه في حياة الناس؛ فهناك مظاهر ساطعة للقبول بهذه الجبرية على مستوى الفرد والمجموع[1]. ونضرب مثلاً:

فإذا ما وقع حادث ما -أمكن معرفة أسباب القصور فيه[2]- وتسبب بخسائر معيَّنة، نجد التسليم السلبي بهذا الأمر الذي وقع، بمعنى أن الناس تقول "قضاء وقدر" و"الحمد لله على كل حال"، و"لا حول لا قوة إلا بالله"، ثم تقف عن هذه الحوقلة وهذا الرضا، وهذا ما يُفرغ الرضا من معناه الإيجابي، ويُحيله إلى موقف سلبي، فوقوف همَّة الناس عند الحوقلة وعدم تعدِّيها إلى مراجعة أسباب هذا الذي حصل وسُبل رفعه وتغييره حتى لا يتكرر ثم القيام بتغييره فعلاً، يُنزل الحمد والرضا في غير موضعهما الصحيح من حياة المسلم، بل ينقلبان إلى موانع نفسية تحول دون تحرُّك الناس لإصلاح أحوالهم.

جبرية الواقع وتكريس اللامسؤولية في حياة المسلمين

ولو تتبعنا الأحداث والأمثال والحكم والأقوال المأثورة والفتاوى التي تدعو إلى "اللامسئولية" (الجبرية)، وتجعل الإنسان كريشة في مهب الريح، لأعيتنا كثرتها، ولكننا نشير هنا إلى ثلاثة أنواع من هذه الإرادة المكسورة المريضة غير المسؤولة: اللامسؤولية السياسية، واللامسؤولية الاجتماعية، واللامسؤولية الفردية؛ ولاشك أن لهذه التشوهات أسباباً موضوعية؛ منها رسوخ الاستبداد السياسي مبكراً في التاريخ الإسلامي، ما دفع إلى إنشاء مدوَّنة أدبية كاملة تدعو إلى الخضوع والتسليم والانقياد التام. ومنها تطوَّر مفهوم الرهبنة في الفكر الإسلامي وتجلِّيه في شكل حالة من التزهُّد والتصوُّف والانصراف عن الدنيا، ومن ثمَّ تطوَّر موقف سلبي اتجاه مشاكل المجتمع، ثم انتهاء إلى انتظار الموت والعودة إلى الله. ومنها الهزائم والإحباطات التي مُنيت بها الشعوب احتلالاً واستبداداً، فكدَّرت حياتها وجعلت المواطن عبداً خائفاً في بلده، وتحت حاكمه وسلطانه، فيصرفه كيف يشاء، فوقتها يفقد الفرد كل نوع من أنواع المبادرة، وتنطفئ همَّته إلا فيما يُلزمه به ربُّ عمله، أو يُلزمه به الحدُّ الأدنى من قُوْتِه.  

أُمَّة برسم الانتظار

لقد أنشأت الإرادة المكسورة السابقة  "شخصية برسم الانتظار" فهي؛ تنتظر الحل، وتنتظر الحصول على العمل، وتنتظر المهدي المنتظر، وتنتظر علامات الساعة الكبرى، وتنتظر الفرج وهي نائمة، وتنتظر أن تسقط الدول العظمى الطاغية من تلقاء نفسها، وتنتظر أن تنام فتستيقظ فتجد حكوماتها المستبدة قد زالت، وتنتظر أن تتحرر فلسطين دون أسباب، وتنتظر أن يتوحَّد المسلمون دون جهد، وتنتظر أن تتحقق الحرية والعدالة والرفاه والحقوق جميعها دون بذل أي جهد.

وفي هذا يقول الشيخ الغزالي: (قد اضطررت - وأنا أعِظ الناس أحياناً - إلى أن أنفي "القَدَر"  الذي يرادف في أذهانهم "الجبر"، وأن أنفي "التوكل" الذي يعنى في أفهامهم "السكون"، وأن أنفي "الرجاء" الذي يجعلهم يتوقعون رحمة الله "بغير عمل"، و"نصره" بغير "جهاد"، إنَّ تأخُّرَنا الاجتماعي يجب أن ينتهى على عَجَل).[3]

إنها أمَّةٌ باتت تفهم فعل الزمن بشكل خاطئ، ذلك أنَّ الزمن عنصر مهم بلا شك، ولكنَّه واحد من عناصر التغيير والتبديل، ومتى اعتمدنا عليه لوحده امتلأ الزمن بما لا يرضينا، بل بما يسوؤنا، ولكن متى أردنا أن يكون الزمن زمننا وجب علينا أن نبذل العناصر الأخرى؛ من الإعداد، وتوفير الموارد، والتخطيط، والعمل، والإبداع، والتجربة، والصبر، والمراجعة، ثمَّ المحاولة فالمحاولة، حتى تستوي لنا الأمور، ويُصبح الزمن زمننا اختياراً ونحن مأجورون، خشية أن يكون زمننا اضطراراً ونحن مَوْزُورُون، فلما كان الختم النبوي بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمَّتِه، كان الزمن الذي نعيشه اليوم هو زمننا اضطراراً، ومتى أخذنا بأسباب الشهود الحضاري وقيادة الحضارة، تحوَّل هذا الزمن إلى زمننا اختياراً قيادةً وشهوداً.

إنَّ للفَلَاح والنَّجاح أسباباً، كما أن للخسران والفشل أسباباً، وبقدر ما نتحقق بأسباب هذه أو تلك يكون موضعنا وتكون قيمتنا.

وهذا الإعداد والتخطيط يشمل كل عمل مهما كان حجمه؛ فالطالب لا بدَّ له من وضع خطته التي تتوافق مع طموحه وشكل مستقبله الذي يريده، وكذلك الزواج لا بدَّ من وضع خططه لإدارته بما يحقِّق الصلاح والسعادة للعائلة، كما أنَّ على صاحب المشروع أن يقدِّم دراسة جدوى تتنبأ بالنتائج المرجوة، وكذلك كل مؤسسة أو نشاط لابد له من تنظير وتخطيط واضح المعالم ومنظم المراحل ومحدد الموارد يحقق مجموعة الأهداف المرجوة.

لذلك كله نحتاج إلى تنكُّب هذا المسار في تربية الأولاد (هذا الجيل الجديد)، ونصحح مفهوم القضاء والقدر بما يرده إلى معنى يمكن التعامل معه في جزئه الإنساني، وخير فهم عملي لهذا المفهوم نجده فيما قاله الشيخ عبد القادر الجيلاني: "ليس الرجل من يستسلم للقدر، وإنما الرجل من ينازع القدر بقدر أحب إلى الله"،  فيدفع القدر بقدر آخر؛ فالقدر الأول كانت له أسبابه والقدر الثاني كذلك له أسبابه، والواجب على الفرد أن يطلب أسباب القدر الأفضل والأصلح.

ولنا كذلك أن نتأمل في فهم الشيخ الغزالي للقدر حين يقول: " قد يُطلَق القدر على جملة القوانين التي تضبط شؤون الحياة والأحياء، وتنتظم على أساسها ظواهر الكون وبواطنه في الأرض والسموات وما بينهما".[4]

فيصبح القضاء والقدر بفهمه الصحيح هذا معزِّزاً للإرادة، ودافعاً للمبادرة، ومرسِّخا للمسؤولية، فيرى كل فرد في المجتمع أنَّه مسؤول عن كل ما يحصل في بيته ومحيط وبلده، وأنَّ له الحق في أن يبادر لكشف أسباب ما يحصل من أخطاء وانحرافات، وله الحق في مساءلة المقصِّرين، وأنَّ عليه واجب تغيير هذه الوقائع المنحرفة، واستبدالها بوقائع مشرفة ونافعة رافعة.

وأختم هنا بما رواه المفكّر المعروف الدكتور عبد الله النفيسي عن موقفٍ شهده في بريطانيا، قال:
كنتُ في بيتي، فقرع أحدهم الباب، فإذا بصبيٍّ صغير، فسألته: ماذا تريد؟ فقال: صاحب البقالة رفع أسعار بعض المنتجات دون مبرِّر، وأنا أجمع توقيعات سكَّان الحيّ لنُعرِب عن رفضنا، وندعو إلى مقاطعته تأديبًا وردعًا"  

فبمثل هذا الشعور الذي زُرع في نفس ذلك الطفل وأمثاله، تُمهَّد الطريق نحو التغيير والإصلاح، وتُحقَّق مطالب الشعوب ومطامحها، وهذا هو الشعور الذي ينبغي أن نغرسه في نفوس أولادنا، وأن نُربِّيهم عليه منذ الصغر، إنه "الشعور بالمسؤولية".

 

[1] يقول الشيخ الغزالي: أفتَك العلل التي أودت بالمسلمين وحضارتهم شيوع فلسفة الجبر بين الجماهير، ورواج كسلها واستسلامها وعجزها في أنفسهم وصفوفهم بعنوان "القدر". القومية العربية ص199

 

[2] القَدَر والتوكل والرجاء آثار تتحقق بأسباب منها ما يرجع لإرادة الإنسان، كما أن منها ما يرجع إلى إرادة الله. الحق المر ج2 ص276

 

[3] الحق المر ج2، ص276

[4] عقيدة المسلم ص119

الحداثة والهوية الحضارية نحو طريق ثالث يتجاوز الاستلاب والقطيعة دور الشباب في تفكيك الهيمنة الغربية وخدمة قضايا الأمة